تبديل المكان..المُقام كأنه القيد

 سأبدأُ بالنفي: إن المكان المراد هنا لا يحمل معنى "الوطن" بالضبط، أو فضاء الهوية والانتماء، بلد النشأة الحميم وأرض اللغة الخاصة وصندوق الذكريات والجهة الأبدية للحنين، كلا. بمعنى آخر؛ لا أريد أن أبدو وكأنني أتحدث عن الوطن حين أتحدث عن المكان الذي في بالي. ثمة تحدٍ طفيف أواجهه في سبيل فك هذا الارتباط؛ وهو تفادي الوقوع في شرك الترادف المألوف بين هاتين المفردتين (المكان والوطن) اللتين أصبحتا من المتوازيات الشائعة، خاصة حين نصادف مفردة "المكان" قادمة من ناحية الأدب فيغلب تأويلها بالوطن. وسأنفي ثانيًا أن يكون المكان المعني إشارةً حصريةً إلى بيت الطفولة، أو إلى فكرة البيت الذي يصلح أن يكون أيقونة مصغرةً مكثفةً لفكرة الوطن. ولا بأس أن ضيف نفيًا ثالثًا، أَعمَّ مما سبق، فأقول إني إذ أقترب من المكان في هذه المساحة المكتوبة فأنا لا أكتب عن الحنين، بل أكتب عن التوتر والفوضى والقلق والشتات المصاحب خلال مرحلة الانتقال من مكان أليف إلى أليف آخر. يسعفني أبو تمام بالشطر الأول من بيته الشافي: "كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزلِ". إن اهتمامي هنا يرتكز على منازل الألفة العابرة في فضاء النصف الأول من هذا البيت فحسب، متفاديًا الخصوصية العاطفية التي تحوم حول العلاقة بـ"أول منزلٍ" في الشطر الثاني.

المكان حيز مأهول ومألوف، حتى وإن اعتبرناه محطة انتقالية، المهم أن يحمل بالنسبة إلينا شيئًا من خصائص التوطّن والسكنى، دون أن يكون وطنًا أو بيتًا بالضرورة، لكنه قد يكون شقةً مستأجرة على سبيل المثال. قد يكون المكان غرفة في فندق اعتدتُ نزوله دون أن أصاب في كل مرة بتوتر الدخول المصحوب بحماس الاكتشاف والقلق من المفاجأت. هذا النوع من "المكان" يمكن أن يتمثَّل للبعض في مبنى المؤسسة حيث يعملون، أو في مبنى المدرسة أو الجامعة حيث يدرسون لسنوات، بل يمكن أن يتمثَّل حتى في داخل السيارة الخاصة! لم لا نتأمل السيارة بوصفها مكاناً، مكاناً محمولاً متنقلاً عابراً للأمكنة؟!

المكان هنا يوجد حيث تعثر الحواس على موطئ للبديهة، والاستعانة الثانية ستكون بمحمود درويش:

"قال لي صاحبي: لا أريد مكاناً

لأُدفَنَ فيه. أريد مكاناً لأَحيا،

وأَلعنَهُ إن أردتُ.

فقلت له – والمكان يمرُّ كإيماءة

بيننا: ما المكان؟

فقال: عُثُورُ الحواسِّ على موطىء

للبديهة".

علينا أيضاً أن ننظر إلى المكان نظامًا معقد أشبه باللغة، مركبًا متجانسًا، متداخلَ العناصر والزوايا والأجزاء، يصعب تفكيك بُناه وفصلها عن بعضها. العِشرة الطويلة مع/ في مكان معين هي من تطبع هذا المكان فينا. مع الوقت نبدو وكأننا نحفظ المكان عن ظهر قلب، متصالحين مع مظهره قبل كل شيء، إلى حد النسيان. ومن خلال التفاعل الحيوي معه نصبح أكثر وعيًا بوظيفةِ كل جزء منه، متكيفين مع أخلاقه (نعم، للمكان أخلاقه أيضًا). نعرف أبعاده وحدوده ومداخله ومخارجه، ونتحرك خلاله بعفوية وأمان نسبي لا يشكو المُنعَّم به من أي نتوء للغرابة، باستثناء الحالات التي يتطور فيها المكان فجأة أو تتغير ملامحه بفعل كارثة.

وكما نتجذر داخل المكان ونمد فيه شبكة من العلاقات والمصالح، والتي تصبح ضرورية أكثر فأكثر، فإن المكان بدوره يتجذر فينا. نستطيع القول في هذه الحالة بأن المكان الذي نقيم فيه يقيم فينا. ونحن، إذ نتقن مكاننا بكفاءة عالية، نصبح كمن يتقن حرفة معينةً فتغدو رأسماله ومهارته الأساس التي تطبعه بطباعِها فلا يستطيع الانتقال منها بسهولة إلى مهنة أخرى. يشيع هذا المثال حين نتأمل علاقة الناس ببيئات عملهم، حيث يعبِّر الكثير من الموظفين عن عدم رضاهم، مشتكين من شح الراتب وتأخر الترقيات أو من علاقاتهم بمديريهم، لكنهم مع ذلك يفضلون البقاء في ذات الوظيفة، في ذات المكان، مستكثرين الكلفة النفسية والذهنية التي تترتب على الخروج من "منطقة الراحة" أثناء الانتقال من مكان إلى آخر، أي من نظام مألوف إلى نظام جديد، غريب بعض الشيء، ما يجعل استقباله الأول مجهدًا ذهنيًا فوق العادة، ويستثير نوعًا من الحذر المرهق.

هكذا يصبح المألوف قيداً، وذلك حين تَحول خبرتنا مع المكان وفيه دون رغبتنا في الهجرة عنه، حادَّةً من شجاعتنا في تبديل المُقام نحو مُقام جديد قد يعِدنا بشروط أفضل للحياة. ثمة خوف من الفقدان يتأجج بداخلنا كلما خطرت على البال فكرة جريئة للرحيل، خوف من خسارة المصالح والمكتسبات والارتباطات النفعية المباشرة وغير المباشرة في علاقتنا بحيثيات المكان وتفاصيله. هذا إذا ما أردنا التركيز على علاقتنا بالمكان بوصفها علاقة نفعيةً، استراتيجيةً بحتة، متجاهلين قليلاً امتدادها العاطفي فينا وما ينسجه الزمن المتراكم من وشائج خفيه في الذاكرة. فالبرغم مما نعانيه هنا، في هذا المُقام، إلا أن إتقانَنا لنمط المكان وأسلوبه وأخلاقه يدثرنا بشيء من العزاء والقناعة بواقع الحال والمعطيات المتاحة.

إذن، فالتكيُّف مع المكان هو في العمق عملية ترويض بطيئة للتماهي مع النمط الاجتماعي الذي يفرضه، النمط الذي هو واقعًا ردةُ فعلٍ وانعكاسٌ لهيمنة نمطه الهندسي والعمراني على سكانيه، أسراه بالأحرى. فمن المذهل حقًا أن نتأمل كيف يهندس الإنسان المعاصر، ممثلاً بالدولة، مكانه باحترافية ودقة متناهية، ضابطًا الصِلات والمسافات بين الشارع والحي والسوق، بين المداخل والمخارج، بين المسجد والساحة…إلخ، دون أن يسمح لأي ملمح عفوي أو فوضوي خلاق بالخروج عن السيطرة.

ولذا فإن المكان الذي نشكِّله بالمسطرة والفرجار والزاوية القائمة، وفقًا لمواصفاتنا الاجتماعية والأمنية واللوجستية، سيلقي بظلاله علينا كقالبٍ يعود ليشكلنا بدوره ويعيد هندسة أبعاد مختلفة من هويتنا، وتلك هي ردة فعل المكان إذ يغدو كائنًا فاعلًا هو الآخر… نتماهى معه ونقبله في عملية ترويض متبادلة، حتى إذا جئنا نغادره اكتشفنا بأنه يعتقلنا بلا وعي.


تعليقات

المشاركات الشائعة