في رحيل شفيق الغبرا: عن الطلاب والسياسة

 




قبل خمس سنوات من الآن، كنتُ طالباً متحمساً لسنته الأولى في جامعة السلطان قابوس التي كان صيتُ مكتبتها الرئيسية أكثر هاجس يحدوني خلال الأسبوع التعريفيّ، في الوقت الذي لم أكن فيه مكترثاً بالتعرُّف على كلية الهندسة وأقسامها بعد أن أصبحت منتسباً إليها بخلطة يمتزج فيها سوء التقدير بإكراهات العائلة وسوق العمل، مع شقاوة قدرية ما فتئتْ تلاحقني عند أكثر اللحظات مصيرية في حياتي. وعندما دخلت إلى المكتبة لأول مرة داهمني غرور المكان بشعور خاطف وكأنني أمشي في أروقة أكبر مكتبة في العالم. حتى تطوَّر هذا الشعور الكثيف إلى صداع حاد لا يراودني في العادة إلا أثناء تجوالي بين دور النشر في معرض مسقط الدولي للكتاب. كان وراء ذلك الصداع عناوين هائلة تخطَّفتْ بصري وبصيرتي خلال لحظة زمنية شرِهة، لا تتجاوز نصف الساعة. ومن بين الكتب التي تلونتْ وتنوعتْ بين شِعر وتاريخ ورواية وسيرة، كان “حياة غير آمنة… جيل الأحلام والإخفاقات”، بتوقيع شفيق الغبرا، أول كتاب أستعيره من المكتبة، مع كتاب آخر صغير للناقد المصري صلاح فضل بعنوان “محمود درويش، حالة شعرية”. خطفتني مذكرات شفيق الغبرا من وقتي خلال استراحات الأسبوع الأول في الجامعة.  أتذكر كيف كنت أسترق الظهيرات لقراءة الكتاب، مخترقاً بصمتي المتوحد حشود الضوضاء التي تطن من حولي، متغلباً بذلك الانكفاء الأعزل على غرابة الأيام الأولى، التي سرعان ما تنامت إلى اغتراب يغلّف الأشياء من حولي بزجاج مضاعف. قرأتُ الكتاب في كل مكان، و اصطحبتُ شخصياته الكثيرة معي إلى الفصل، إلى صالة الاستقبال بمركز الدراسات التحضيرية، إلى الباحة الخلفية للمركز الثقافي، إلى المقهى، وبالطبع إلى المكتبة نفسها، كمن يحاول أن يتآلف ويتآنس مع ركن مهجور في الغرفة أو وطن بديل بالقراءة في أرجائه. 



كان “حياة غير آمنة” لشفيق الغبرا فاتحةً لفصل جديد في أجمل حكاية في حياتي: حكايتي مع فلسطين، الكلمة التي لا تبديل لها. كنت كمن يلتحق بعالمٍ في آخر ثانية من الحلم، عالم تنقصه نفخة أخيرة لينطفئ بكل معالمه ورموزه، بكل أساطيره ونضالاته. ولن يعود بإمكاننا استعادته إلا على سبيل الذكرى، “الذكرى التي تلي الموت والحربَ والزلزال”(1)؟، إنه عالم المستضعفين الأقوياء، عالم عبدالقادر جرادات(سعد) قائد السرية الطلابية، المسحول على شوارع الأشرفية تجره سيارة جيب. عالم علي أبو طوق الذي جسَّدته قلعة الشقيف، ورفعته إلى رُتب البلاغة عبارة كُتبت على جدار القلعة: “بناها بوفور، حررها صلاح الدين، وغيّر معالمها علي أبو طوق”. إنه بلا شك عالم “جهاد”، الاسم الحركي لشفيق الغبرا، وآخرين من الطلاب الشبان الكبار الذين جعلوا فكرة الحرية والتحرير فَلَك حياتهم، وقلبوا شعار القومية العربية “الوحدة طريق التحرير” إلى “التحرير طريق الوحدة”. 



الشهيد علي أبو طوق(2)

 
لقد مهَّدني الاطلاع على تجربة شفيق الغبرا ورفاقه في العمل الطلابي، في تلك المرحلة المبكرة من حياتي الجامعية، للدخول في طور إحباط ضروري أفرزه المناخ الطلابي الذي كنت أعيش، إذ كان الجو العام متميزاً بغياب التوتر الفكري الطبيعي والجدل والسؤال، مع تراجع مستوى النقاش الذي يفترض أن نواكبه نحن كطلاب جامعيين، بل موته. ناهيك عن إيحاء عام بأن الوضع مستتب ومعافى من أي إشكالات تستدعي إثارة حوار من أي نوع. حتى أن القضايا النسوية التي أثيرت مؤخراً (ليس في الجامعة تماماً بل في محيطها) لم تأخذ إثارتها من ماهية الموضوع نفسه؛ بل سبب هذه الإثارة كامن، كما أرى، في أن أحداً ما حاول أخيراً أن يخدش هذا الصمت وأن يربك طمأنينة المشهد المصطنعة. ظل هذا الواقع المُرائي يقذف بي إلى مقارنة مهمة بين موات الحراك الطلابي في هذه الجامعة وحيويته في جامعاتٍ أخرى. كنت ألجأ أحياناً إلى مقارنات عمياء لأتخفف من عبء الصمت الذي يتلبس المكان والأشياء وما يلبث حتى يتلبسني، أنا نفسي، في وقت كنتُ فيه شديد الإعجاب بالنموذج الفرنسي الذي قدمه الطلبة في ثورة مايو عام 1968، والذي كان الأعمق تأثيراً في الثورات التي شهدها “العالم الثالث” فيما بعد، خاصة لدى أجيال من الشباب العرب المخطوفين لتوهم بالانتصار العربيّ اليتيم على غطرسة الجيش الإسرائيلي، في معركة الكرامة في آذار/ مارس من العام نفسه. فأن تتمكن ثورة طلابية من تفجير الأزمة التي انتهت بالإطاحة بـالجنرال شارل ديغول، أهم بطل قوميّ في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وأن تجذب إلى صفوفها ألمع نجوم الثقافة الفرنسيين في القرن العشرين، من أمثال جان بول سارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار وميشيل فوكو مع آلاف من المثقفين وأساتذة الجامعات الذين حاذت أحذيتهم أحذية طلابهم في المظاهرات… أن يكون الطلاب وراء كل ذلك، لهيَ إذن ظاهرة تاريخية تشرح الكثير عن الثقل السياسي الذي تمثله شريحة الطلاب في أي مجتمع. 


في المقابل، تمكن “جهاد” ورفاقه، عبر تأسيس السرية الطلابية أو ما عُرف لاحقاً بكتيبة الجرمق، من صناعة النموذج العربي للنضال الطلابي وكتابة المَأْثُرة في قلعة الشقيف، في تجربة فريدة في تاريخ المسيرة الطلابية العربية، ينبغي أن تُدْرس وتُدَرَّس، بل وتصدَّر.

ياسر عرفات يزور مقاتلي كتيبة الجرمق في قلعة الشقيف(5).

نعم، لقد توفرتْ لتلك المرحلة شروطها التاريخية الاستثنائية: نكبة فلسطين عام 1948، هزيمة حزيران عام ١٩٦٧، ثم انطلاق مرحلة الكفاح المسلح والثورة الفلسطينية، وصولاً إلى انتصار الكرامة ثم حرب تشرين في بداية السبعينيات… ولكن أليس لنا، نحن أبناء اليوم، معاركنا الحتمية ومسؤوليات الجيل الذي ننتمي إليه في سياق حركة التاريخ الكبرى؟ يكفي في هذا المقام أن أستشهد بواقعة قد تبدو غريبة وخطيرة، بالقياس إلى ما وصلت إليه المدارس والجامعات اليوم في الكثير من أنحاء العالم العربي من عزل للسياسة والقضايا العامة والتعامل مع المنشغلين بها كتهديد محتمل. يورد شفيق الغبرا هذه الواقعة في مذكراته، عن فترة دراسته في مدرسة برمانا خلال السنوات 69- 1971، أي في الفترة التي بدأت فيها الفصائل الفلسطينية تتناحر مع النظام الأردنيّ في معارك عنيفة ستؤدي في النهاية إلى “أيلول الأسود” الذي قضى على وجود المقاومة الفلسطينية في عمّان. كان شفيق ناقداً لسياسات النظام الهاشمي تجاه الفلسطينيين في الأردن، شأنه شأن أي فلسطيني في ذلك الوقت، بينما كان صديقه عبدالإله العواملة شاباً أردنياً ذا فكرٍ وطنيّ، فاحتدَّ النقاش بينهما حول ما يجري في الأردن. الغريب في الأمر، بمقياس اليوم، هو الطريقة التي تدخَّلت بها المدرسة لاحتواء خلافهما، حيث دعتهما إلى مناظرة علنية شهدتها كل المدرسة! 

“ساعدتني المدرسة كطالب على اكتشاف نفسي والتعرف إلى مواهبي، وإيماني بنفسي وحقوقي”(3). ويضيف الغبرا: “المدرسة ليس محفوظات، بل حياة ومناخ وحرية فكرية وتساؤل وتجارب وتعلّم لأصول التعامل بين الشاب والشابة وبين الأستاذ والطالب وبين الأفكار المختلفة وبين العلم والتطبيق”. وأعتقد أن شفيق الغبرا استطاع خلال حياته الأكاديمية الغنية، وعمله كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة الكويت، أن يتجاوز الأُطر الوظيفية والمخبرية التي اختزلت الشخصية الأكاديمية في العالم العربي. فبات الغبرا نموذجاً للأكاديميّ المشار إليه كمثقف عضوي طليعي، الأستاذ الذي يترك لمسته وأثره الخاص في سيرة ومسيرة أي طالب جلس في يوم من الأيام على مقاعده. 

ولأن الإنترنت بات وسيلة معاصرة وناجعة للتَتَلمُذ، فأعتقد أنني اقتربت إلى حد ما من شخصية شفيق الغبرا الأكاديمية منذ التحاقي بمبادرة “سفير فلسطين” مع انطلاقها في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، التي ساهم فيها الراحل بمحاضرات نوعيَّة تحت عنوان “أبجديات القضية الفلسطينية”. بالإضافة إلى متابعتي لمحاضراته المنشورة على الإنترنت ولقاءاته التلفزيونية، وحرصي على قراءة مقاله الأسبوعي في صحيفة “القدس العربي”. لكن صورة “جهاد”، لا الأكاديمي، هي من ظلت تهيمن عليَّ كلما تعاطيت مع ما يكتبه أو يبثه في حديث مصوَّر. ومع ذلك فلم أعرف إلا متأخراً عن صراعه مع السرطان. فالرجل كان قليل الكتابة أو الكلام خارج الشؤون العامة، ولا يجد طريقاً إلى الشخصيّ إلا عندما يتقاطع مع قضاياه التي يعكف على دراستها. 

وفي لقاء افتراضيّ نظمته مؤسسة التعاون في إبريل الماضي، احتفاءً بتجربة شفيق الغبرا، حدستُ منذ بداية اللقاء، من خلال محياه الشاحب وشعره المتساقط، أن الرجل قد شُخّص بالمرض الخبيث، وأنه الآن في طور معركته الملحمية مع شروط الحياة الجديدة. فتذكرت على الفور فلسطينياً آخر يصارع السرطان “خارج المكان”، دائماً: إنه الراحل الكبير إدوارد سعيد… إلى أن جاء شفيق في حديثه على ذكر حالته الصحية ليُطمئن أصدقاء النضال والتجربة (معين الطاهر والياس خوري وآخرين ممن شاركوا في تلك الأمسية) باستقرار الوضع وسير العلاج كما ينبغي. وسأظل دائماً أتذكر شيئاً من كلام الياس خوري في تلك الأمسية: “أخطر شيء أن نتحول إلى ذكريات… والكتابة لا تجعل من الأشياء ماضياً بل حاضراً”. وباعتقادي هذا ما فعلته مذكرات شفيق الغبرا، في تجربتي الشخصية على الأقل، عندما أنقذت في اللحظة الأخيرة عالماً كدنا نغلق عليه غلاف غسان كنفاني “عالمٌ ليس لنا”.

مع نهاية سنتي الجامعية الأولى بدأت أتراجع عن ارتياد مكتبة الجامعة، التي لم تعد مكاناً مريحاً للقراءة، بل تحولت إلى مجرد ورشة للامتحانات والامتحانات والامتحانات التي لا تنتهي طوال العام الدراسي. بينما تُحدِّق في الطلاب جدران من الكتب التي لا ينال منها سوى الغبار!

 هوامش:

(1) محمود درويش، حيرة العائد، كما لو نودي بشاعر أن أنهض، رياض الريس للكتب والنشر.

(2) الصورة مأخوذة عن موقع جريدة زمان الوصل.

(3) شفيق الغبرا، حياة غير آمنة… جيل الأحلام والإخفاقات”، دار الساقي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة