أسير عاشق، كما في الأفلام


13 أبريل 2024


مع نهاية اليوم العاشر من يونيو العام 1967، بدا شكل الجغرافيا الفلسطينية ممزقاً وموزعاً على جزر متفرقة فوق اليابسة. فنتيجةً للهزيمة المروعة التي أسفرت عنها الأيام الستة تحول المكان إلى جغرافيات متعددة، أو هويات عدة تجمعها هوية وطنية متخيلة تطفو على الكلام بلا وحدة جغرافية. ففي حين أننا نتخيل فلسطيناً واحدة موحدة، نكتشف في الواقع السياسي والمادي أكثر من فلسطين، فعلى الأرض هناك فلسطينُ الضفة وفلسطينُ غزة وفلسطين القدس وفلسطين الداخل المحتل، وهناك أيضاً فلسطين المنفى أو الشتات، وإلى جانب هذه الجغرافيات أضاف عبد الرحيم الشيخ، الشاعر وأستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية بجامعة بيرزيت، فلسطيناً أخرى أو "جغرافيا سادسة" تبدو منسية أو ساقطةً سهواً عن هذه الخريطة؛ وهي فلسطين الموجودة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث ينشأ مجتمع فلسطيني معزول من الأسرى والأسيرات.  

هناك، في تلك الجغرافيا السادسة المنفية التي دخل إلى فضائها المغلق وهو شاب في الخامسة والعشرين، أعلن السجَّانُ في السابع من أبريل 2024 عن اغتيال وليد دقّة في سجن "الرملة"، وليد القوي الذي لم تستنزف وجودَه ساعةُ السجن البطيئة طيلة ثمانية وثلاثين عاماً بين الجدران، وليد الذي لم يقتله "الزمن الموازي" كما كتب عنه في إحدى "رومياته" المهربة من السجن، بل طوره بعبقرية أدبية لا يمكن اكتشافها في الحرية المطلقة الفائضة عن الحاجة، كأن العبقرية لا تكشِف عن أسرارها إلا في أعماق العزلة، عزلة السجن حيث الحاجة أم الاختراع، ومع ذلك لم تَبلغ تلك العبقرية الأسيرة إلا شخصيات نادرة من الأسرى في تاريخِ ما يصنفه النقاد بـ"أدب السجون"... ولكن ما قتل وليد، ما قتل جسده في الواقع لا شخصه، كان الإعدامُ الطبيُّ الممنهجُ والطويل.

لم يَشنُق وليد فتوة قلبه رغم سنوات الحرمان الطويلة في سجنه الصحراوي (نفحة). هزمه حنان الأنثى التي أطلت عليه وكأنها تخرج من ليل أسير يحلم. كانت سناء سلامة صحفيةً معنيةً لسنوات بالكتابة عن شؤون الأسرى في تلك الجغرافيا الفلسطينية المنسية في سجون الاحتلال، الجغرافيا السادسة كما أسماها عبدالرحيم الشيخ. وليد لم يكابر طويلاً حين راوده هواء الهوى الغريب من فتحة سرية في قلعة العدو الحصينة. لمعت له عينا سناء التي بادلته الانجذاب منبهرة بثقافته العالية منذ لقائهما الأول تحت عيون السجَّان، ولم يكن منه سوى أن جازف بعضلة القلب التي أوهنها المرض لاحقاً، وارتمى بكل عطش الصحاري في الحب الممنوع الذي "يهدد الأمن الإسرائيلي" كما قالت المحكمة. 

القيد الذي لم يعصم وليد من الوقوع في الحب لم يمنعه من الزواج بالحب، بخلاف مصائر أبطال قصص العشق الكلاسيكية الذين يطول بهم الحرمان لأن القبيلة تمنعهم من الزواج بحبيباتهم حتى الحلقة الأخيرة من المسلسل. هذا الأسير العاشق غيَّر النهاية التقليدية المألوفة وصار زوجاً لسناء، بل صار يفكر بالإنجاب. أراد أن يكون أباً في الوقت الذي شعر فيه بأن خيط الزمن الموازي يتمدد بلا نهاية واضحة سوى الموت.

يمكن أن نقول بأن توقهما الفطري للأبوة والأمومة هو ما دفع هذا الزوج لهزيمة المستحيل بعد كل تلك السنوات التي تعانقا فيها بالأصابع على باب الزيارة السريعة. ولنا أن نفكر أيضاً بأن التحرُّر عبر الكتابة وحدها لم يكن كافياً بالنسبة لوليد الذي ظل يبحث عن امتداد عضوي له في الحاضر المفقود خارج زنزانته، وهذا بالضبط ما كان حين أشرقت "ميلاد" بنورها من نطفة مهربة!  

ليس من قبيل الرثاء ولا العزاء امتداح وليد دقة كاتباً ومثقفاً بعد استشهاده. فهذه مهمة سبقنا أعداؤه إليها فتكفلوا بمديحه عن غير قصد، أعداؤه الذين كرهوه في سجنه للسبب ذاته الذي فتن سناء منذ اللقاء الأول؛ وهو ثقافته العالية. كرهه السجَّانون لأنه يتمرد عليهم من قلب السجن كمثقف، وأحبته سناء قبل ثمانية وعشرين عاماً لأنه مثقفٌ في قلب السجن. ومن يقرأ كتاباته التي كان يطلقها من سجنه كأنها روميات الأمير الأسير، أبي فراس الحمداني، سيعثر على سبب آخر وجيه ومفارِق للكراهية التي تكيلها المؤسسة الإسرائيلية لوليد. إنه يثير الغيظ والكراهية ليس بسبب لغته المتطورة فوق حدود استيعاب العقلية الإسرائيلية الجهولة والأصولية فحسب، بل لأنه لا يحسن الكراهية المضادة أيضاً، ويعترف: "ما زلت لا أحسن الكراهية، ولا الخشونة ولا الفجاجة التي قد تفرضها حياة السجن"... متشبثاً بتفوقه الأخلاقي على السجن والاحتلال معاً، كما جاء في رسالته التي كتبها بمناسبة مرور عشرين عاماً على حياته في الكهف.

في الكهف صقل "رجل الكهف" لغةً خاصة هذبها الحب والألم الشفاف، لغةً نظن لوهلة أن كاتبها يتنزه في حديقة، فلا نصدق لرقتها أنها لغة خارجة من السجن/ الكهف الذي كتب فيه أدباً أقل ما يُقال عنه إنه أجمل بكثير من معظم ما يكتبه كتَّاب المكاتب الزجاجية المكيفة، وذلك قبل أن ينقطع خيط الزمن الموازي فينتهي إلى موت يوجع الأصدقاء والقراء، لكنه على الأقل سيغيظ الأعداء أكثر مما هو متوقع، إلى الحد الذي يستفز واحداً مثل إيتمار بن غفير ليصرِّح بأنه غير راضٍ عن موت وليد "موتاً طبيعياً" وليس بالإعدام!


تعليقات

المشاركات الشائعة