فلسطينُ المُتخَيَّلة

 

اللوحة للفنان الفلسطيني الراحل إسماعيل شاموط

من هم هؤلاء الذين ظلوا لعقود يموِّلون مخيلتنا بالمجاز الجميل بينما يستشهدون في المُرادف الواقعي من اللغة، يصقلون لنا الكلمات المستعملة فتصير من بعدهم أكثر جِدةً وحِدَّةً، جاهزةً للدخول في الشعر؟! من هم هؤلاء الفلسطينيون حقاً، وعن أي فلسطين متخيلةٍ نتحدث وبأي فلسطين نحلُم؟!

كان جان جينيه، الأديب الفرنسي "المنبوذ"، أكثر فضولاً من غيره في محاولة اكتشاف فلسطين من خلال الفلسطينيين، عندما قرر أن يلتحق بمخيماتهم في الأردن عام 1970 إثر دعوةٍ تلقاها من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهي التي أدركت، منذ انطلاقتها، أهمية أن تتمتع الثورة بـ"شرعية أدبية"  عالمية تمنحها صبغتها الفريدة كملحمة أُممية، وذلك في مرحلة تاريخية حاسمة كانت تغلي بصعود حركات التحرر الوطني وبروز بؤر ثورية جديدة في أماكن متفرقة من "العالم الثالث" مطلع النصف الثاني من القرن العشرين. 

ولم تكن تلك الشرعية الأدبية المنشودة لتتحقق إلا من خلال ارتباط الثورة بأسماء بارزة على خارطة الأدب العالمي في ذلك الوقت. فكان جان جينيه واحداً من أهم اكتشافات الثورة الفلسطينية آن ذاك، وعكسُ العبارة لا بدَّ أن يَصدق بقوة أيضاً؛ فقد كانت تلك الثورة، في المقابل، أهم اكتشافات الفرنسي المتشرد الذي زار الأردن لتقضية أسبوع واحد في عجلون، إلى أن استفاق من حلمه وقد مرت سنتان من حياته بين الفدائيين: "الفترة الأكثر إبهاجاً في حياتي" كما كتب.

جاء جينيه إلى الأردن مسكوناً بالبحث عن فلسطين المتخيلة، جاء ليتخيَّلها مع فدائييها الملثمين، حيث اشتهر بينهم بلقب "الملازم علي": "... في صحبة الفلسطينيين، حاملاً وظيفتي كحالم داخل الحلم". هكذا كتب في مذكراته "أسيرٌ عاشق" بعد أربعة عشر عاماً من تلك التجربة، إذ لم يكن هذا الغريب، قبل عام 1970،  يعرف عن فلسطين أو الصراع العربي الإسرائيلي سوى ما تقوله صحافة بلاده في فرنسا.

وجد جينيه نفسه كواحدٍ من أبناء البلاد السليبة، اليتامى الذين لا يتعرفون على ملامح أمهم وأطباعها إلا عن طريق آلية واحدة: إدمان التَّخيل، حتى وهم يقفون على هذا القدر من القرب الجغرافي، حتى وهم يتسللون عبر الحدود إلى الأرض المحتلة ويرجعون إلى المنفى سالمين من البلاد! لقد أدمنوا خيالاتهم إلى حد التلاشي أحياناً، فقد باتوا هم أيضاً متخَيَّلين بالنسبة للعالم الخارجي، أو كما يصفهم جينيه في عبارته البليغة بأنهم "ظلوا لزمن طويل جداً محلوماً بهم أكثر منهم مُفكراً بهم".

ظلت تلك الروح الوطنية القائمة على الخيال ضرباً من "خيال المنفى" الذي درسه غلين باومن كأسلوب من أساليب الوعي المنفيّ في بناء المكان من خارجه. 

وفي الوقت الذي انطلقت فيه الثورة الفلسطينية، أي بعد نحو عشرين عاماً من النكبة، كان في المخيمات من الرجال والنساء عدد كبير ممن يتذكر البلاد، وكانت مقاومة الذاكرة الفلسطينية في المنفى تقضي على من يتذكر شيئاً أن يورثه، على طريقته، لمن لا يتذكر إلا أن بوسعه أن يتخيل. وهكذا بدأت المخيمات تشهد استنساخ الذاكرة بين جيلين من اللاجئين؛ فجيل عرف البلاد، قبل النكبة أو قبل النكسة، فعاش في المنفى يتذكر ويحكي، وجيل تفتَّح وعيه تحت الشمس الغريبة، فعاش يتخيل الذكريات الموروثة؛ يتذكر الكبار ويتخيل الصغار. 

هل كان التخيُّل حيلةً من حيل العبقرية البدائية للقفز على أنقاض الحاضر المهزوم؟ 

كان الفدائي بحاجة إلى أن يتذكر أو يتخيل، أو أن يمارس الفعلين معاً حتى يستمر في القتال. كان التخيُّل فعلاً تحريضياً. وكانت للفلسطينيين آن ذاك بنادق ناطقة تُحرر خيالهم، أي أنهم لم يكونوا مكبوتين تماماً كما صاروا في مراحل لاحقة. أما في اليوم الذي صمتت فيه بنادقهم فقد بدا أن كل شيء سيتغير إلى الأبد. انصهروا مع بلادهم المتخيلة في ذلك اليوم الذي ركبوا فيه البحر وغادروا بيروت عام 1982، في مشهد تراجيدي يوثقه الشاعر الراحل أمجد ناصر كمن يقف على أطلال المعلقة جاهلية:

"عالم اندثر دون أن يترك أطلالاً، وكنَّا نحن أطلاله".  


تعليقات

المشاركات الشائعة