غزة التي تُحاصر أعداءها


غزة التي تُحاصر أعداءها

ليس في وسع الكتابة وحدها أن تحرر غزة من الحصار المسلح المضروب عليها منذ ستة عشر عاما على الأقل، مهما تحولت الأقلام إلى حراب، ولكن بوسع غزة الوحيدة أن تحرر كتابتنا كل يوم وتستشهد على مقربة منها. في الوقت نفسه فإن الكتابة عن غزة قد تجرح نفسها بأدواتها وتضخم الشعور بالذنب، هذا ما يحدث معي على الأقل في غرفة للسجال النفسي المغلق على الذنب والعجز. بعضنا اختار أن يعتزل متابعة الأخبار تحت وطأة الإحساس بقصور اليد عن اجتراح الحيلة، مثقلاً بالشعور بذنب قديم ورثته الأجيال عن نكبة مستمرة منذ نكبة 1948، حيث علقت أمة بأكملها في وحل الماضي تتوسل شفقة المستقبل.


أما البعض الآخر فقد أدمن المأساة حتى خال أنه يكتب بحبر أكثر لمعاناً من الدم. وبين الحالتين يتأرجح سؤال الكتابة الأخلاقي في الحرب الأخيرة على غزة، وفي كل مرة يسيل فيها دم جديد على شريط النبأ العاجل. وفي الحالتين أثق بأن الدم سيهزمنا، سيكسر أقلامنا التي تحاول أن تتمشى فيه منذ عقود لترسم ملامح الضحية القديمة بأبعاد جديدة، وسيجف الحبر الذي يتنزه في الدم الغليظ بحثاً عن معنى فلسفي جديد للموت، ستجف الصحف ويبقى الدم طازجاً على بياض الورق. يكفي أن نعترف بأن غزة تموت أمامنا، انتحاراً واستشهاداً، بينما نفشل في مجاراتها في التعبير، تحرر لغتنا من الخوف والموت فنفشل في تحرير رقعة صغيرة من المعنى على الورق، ويقصر ذكاؤنا الأدبي عن إدراك مداخل ومخارج هذه الحرية اللغوية التي يستشهد من أجلها شعب كامل في غزة.


المؤرخ هو الآخر مُؤرق بغزة، هي الفكرة الشاردة في ليله الطويل من كل دروس التاريخ وعبره، يكتبها ويمحوها كلما تغيرت معطيات الصراع على الأرض، ويحاول عبثاً أن يؤسس سطراً مبدئياً لتاريخها القادم: أهي المُحاصَرة أم المُحاصِرة؟ ذات مرة تكلم محمود درويش بنبرة جندي حائر في إحدى قصائده: "أحاصرُ دائماً شبحاً يحاصرني"! هكذا تنقلب غزة على أعدائها كما تنقلب في ليل المؤرخ وتعبث بالأدوار بين السجين والسجَّان.


هي حيرتي أنا وحيرة أبناء جيلي من الشباب العرب الذين ورثوا وعيهم السياسي عن غزة وهي مطوقة البر والبحر حتى صار الحصار اسماً من أسمائها. وشخصياً، فقد أرَّختْ صرخةُ "هدى غالية" على شاطئ غزة عام 2006 انتباهي الأول لمأساة القطاع كحالة خاصة في خضم المأساة الفلسطينية الكبرى. فالطفلة التي خرجت مع عائلتها في رحلة إلى الشاطئ وجدت نفسها وحيدة بعدما ذَبحت البحرية الإسرائيلية أباها وأمها وأشقاءها على الرمل. أتذكر صوتها الموزع بين جثة أبيها والمصور: "بابا... بابا... صوّره... صوّره"! كانت تلك المجزرة العائلية على الشاطئ استهلالاً لمجازر إسرائيلية أبشع وأكبر في الحروب المستقبلية على القطاع. ومنذ 2006 حتى اليوم تطوَّر الحصار تدريجياً على غزة حتى أطبق على جميع مساماتها ومعابرها، كما تطورت مع الحصار صرخة هدى المتصلة حتى الرمق الأخير في وجه عالم صامت.


أطل على شاطئ غزة عبر خرائط جوجل فأرى الحصار يتمدد على البحر، يسيج العواطف المكبوتة بأمل وشيك مملح باليأس. على بحر غزة يحتار السُكَّان المحاصرون في تفسير ضوء منارة محايد، لا يدنو ولا يبتعد شبراً عن ساحل القطاع الذي انتهى إلى "معسكر اعتقال مفتوح" كما وصفه دافيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق. لقد تمحورت السياسة الإسرائيلية في غزة، منذ ديفيد بن غوريون حتى يائير لبيد على تحويل القطاع إلى جزيرة مقطوعة عن التاريخ والجغرافيا، كما هي مقطوعة عن الماء والكهرباء. ومنذ خمسينيات القرن الماضي بدأت عقدة غزة تنمو في الخيال السياسي لدى قادة الكيان الصهيوني، ولطالماً كانت ساحةً معتقلةً للتنفيس عن الكبت العسكري لدى جيش الاحتلال كلما تعقد المشهد السياسي وضاق المزاج العبري بالعرب.


لقد جرب الاحتلال شتى الاستراتيجيات العسكرية والسياسية مع غزة لكنه لم يفلح في التخلص من "طنجرة الضغط" كما تدعوها وسائل الإعلام الإسرائيلية، احتلها فضاق ذرعاً بأعبائها الأمنية والديموغرافية فكانت أول ما تنازل عنه العدو بعد اتفاق أوسلو الذي كان شعاره "غزة/ أريحا أولا"، حاصرها فتحولت إلى قلعة تغذيها الأنفاق! ولقد مات بن غوريون حنقاً على غزة وحسرة على الفرص التاريخية التي ضاعت دون أن يتمكن من تركيع القطاع وإذلال أهله، فهل تتواضع الغطرسة الإسرائيلية أمام اعتراف مؤسسها بعد فشل حملته على غزة عام 1949: "لو غزوناها ألف مرة فلن تخضع؟!"


أما الحرب الأخيرة على غزة فهي تشرح مرض الحاضر الإسرائيلي المزمن، فمنذ أن قام الحاضر الإسرائيلي على ماضي العرب الفلسطينيين وجماجمهم وهو متوتر ومتشنج، مصاب بالأرق دائماً ومشكوك فيه، فاللحظة الإسرائيلية لن تكون طبيعية أبداً لأنها وليدة حروب الماضي مع العرب وموعودة بحروب المستقبل معهم، وربما مع غيرهم أيضاً. ولذلك ستظل إسرائيل - ما بقيت في المنطقة - دولة حرب مستشاطة، لا تركن الحياة فيها إلا إلى استراحات "سلام" مريب وقابل للانفجار في أي لحظة. كل مستقبلها يدور حول وظيفة الحرب الوشيكة، وبالحرب وحدها تتعرف على أسئلتها الوجودية التي تُحير كبار الفلاسفة المنبوذين في تاريخ الحركة الصهيونية:


مارتن بوبر: قلنا "سنحرر" الأرض، وقصدنا جعلها أرضا لليهود، ولكن أرضا لليهود من أجل ماذا؟

بن غوريون: من أجل استخراج الخبز من الأرض!

بوبر: من أجل ماذا؟!

بن غوريون: كي نأكل!

بوبر: من أجل ماذا؟!

بن غوريون: كفى!*


_______________________

* نقلاً عن كتاب توم سغيف "الإسرائيليون الأوائل".


تعليقات

المشاركات الشائعة