عودةً للسؤال عن الضمير اليهودي

 

عودةً للسؤال عن الضمير اليهودي

عودةً للسؤال عن الضمير اليهودي



"ألا تحفظون قليلاً من الشعر كي توقفوا المذبحة؟!"

محمود درويش في "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخير".


تدخل الجريمة الإسرائيلية، المسلحة أمريكياً، أسبوعها الثالث في قطاع غزة، في استئناف حي ومباشر للإبادة العرقية المستمرة بحق الفلسطينيين العرب منذ ثمانية عقود، مُشرِعةً حكاية النكبة الطويلة على نهايات تاريخية مؤجلة، تهدد المستقبل البشري، بمختلف مكوناته الدينية والعرقية والثقافية، باندلاع طاقة كراهية غير مسبوقة في أماكن أخرى بعيدة وآمنة نسبياً، طاقة كراهية منفلتة من الردع القانوني والاستيعاب الفكري، راح ضحيتها إلى الآن الطفل الفلسطيني ذو الستة أعوام، وديع الفيومي، بعد 26 طعنة حتى الموت سددها إلى جسده الضئيل مسعورٌ أمريكي مؤيد لإسرائيل!


هي ليست لحظة حرب تندلع فيها الكراهيات الكامنة حول العالم فحسب، كما أنها ليست مجرد عودة جديدة إلى مرحلة "رهاب الإسلام" التي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر؛ بل هي لحظة انتكاس حضاري ستطول معالجة آثارها الفتاكة لعقود قادمة. إنها المرحلة التي يتراجع فيها السؤال عن قضايا الحداثة وما بعدها (مكافحة التلوث والتغير المناخي، غزو الفضاء، الذكاء الاصطناعي، أنسنة المدن، والطاقة البديلة… إلخ) عودةً إلى حقبة الغاب والحديث عن الانتقام والاستشفاء من العنف بمزيد من العنف… هي عودة تدريجية إلى "هيروشيما" تسترعي الآن أكثر من أي وقت مضى انتباه الضمير اليهودي حول العالم لمراجعة أخلاقية جادة لفداحة الحل الذي اقترحته الصهيونية للمشكلة اليهودية قبل أكثر من قرن. 

 

لقد بات واضحاً أن الجريمة الإسرائيلية الأمريكية المشتركة لا توقظ في الإنسان السوي منزعه الفطري والطبيعي (والإنساني في نهاية المطاف) للكُره فحسب، بصرف النظر -مؤقتاً- عن أشكال تحرُّر طاقة هذا الكره إلى فعل، بل هي جريمة تعمل على خلط كل أوراق الكراهية الممكنة في العالم لتعيد الصراع من جديد إلى بؤرة العنصرية المكثفة، وإلى سؤال ديني أسطوري عن هوية الذبيح: إسحاق أم إسماعيل؟ وهي بذلك تموِّل عُلوقنا الطويل في الثنائيات القاتلة بين الشرق والغرب، بين الإسلام واليهودية، بين "نحن وهم". ففي أسبوع واحد خلطت إسرائيل الأوراق معلنةً حربها على الأديان السماوية في معركة واحدة؛ فقصفت الخميس الماضي كنيسة القديس برفيريوس، ثالث أقدم كنائس العالم، على من فيها من لاجئين مسلمين ومسيحيين. ولم تتورع قبلها بيومين عن قصف المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) التابع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس، مرتكبة واحدة من أبشع مجازرها منذ النكبة. 


هكذا لم تتوقف إسرائيل يوماً عن تفخيخ حربها على البشر والمقدسات بفكرة الدفاع عن الضحية اليهودية، معلنةً حرباً دينية على الأديان كلها، في إطار حملتها "الملحمية" على العرب الذين يهددون برميها في البحر. في حين صدَّق مثقفون يهود على طرد جيش "الدفاع" الإسرائيلي (الذي تطور عن العصابات الصهيونية في الأربعينيات) أصحابَ المكان خارج البر والبحر والنَّص بأبشع استغلال سردي ممكن لتراجيديا "الهولوكوست" التي جرى التعامل معها كعلامة تجارية ناجحة لمواصلة هذا المشروع، الذي يواصل بدوره ابتزاز العالم وتهديده بموجة عنف دينية وعرقية جديدة: علينا وعلى أعدائنا! وكان إدوارد سعيد، قبل رحيله بعامين، قد باغت المثقفين اليهود عندما أعلن في حوار مع صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية قائلاً "أنا هو المثقف اليهودي الأخير" واصفاً المثقفين اليهود في إسرائيل بأنهم مجرد "وجهاء ضواحي": "من عاموس عوز إلى جميع هؤلاء الذين يقيمون في أمريكا… أنا هو المريد الحقيقي الوحيد لأدورنو".


وكانت صدمة بالفعل أن يخاطب إسحق دويتشر "اليهودي اللايهودي" الإسرائيليين الأوائل في منتصف القرن الماضي بقوله: "إنها لمأساة حقيقية مروعة أن يكون هتلر هو أكبر مجدد للهوية اليهودية. وهذه تعتبر إحدى أصغر الانتصارات التي حققها بعد موته. لقد كانت مذبحة "أوشفيتز" بمثابة السرير الهزاز والمرعب للوعي اليهودي الجديد، وللأمة اليهودية الجديدة. وإنه لأمر غريب ومؤلم أن يفكر أولئك الذين أكدوا على الهوية اليهودية وبقائها بأن إبادة ستة ملايين يهودي قد أعطت الحياة لليهودية". وربما تكون كلمات دويتشر تلك قد وجدت صداها اليوم في هتافات منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام JVP" وفي حملات يهودية مشابهة مناهضة للدولة الصهيونية، والتي ترى في نتنياهو وزمرته المثال الصارخ على النازية الجديدة. 


أما في الجامعات الأمريكية والغربية، حيث نعوم تشومسكي وآفي شلايم وإيلان بابيه نورمان فرانكشتاين… وآخرين، فمن الواضح أن مساحات هؤلاء تتقلص يومياً في ظل اتساع رقعة الاتهام بمعاداة السامية التي تطورت من اللاسامية إلى لاسامية جديدة تلاحق أي مثقف يهودي ينتقد سياسات إسرائيل تجاه العرب لتصمه باليهودي الذي يكره نفسه، وهي التهمة التي أسس لها بن غورين عام 1943، أي قبل تأسيس إسرائيل حتى، حين قال: "من الآن فصاعدا؛ أن تكون مناهضا للصهيونية يعني أنك مناهض للسامية"! 


تعليقات

المشاركات الشائعة