الزَّمنُ في غَزة: ذلك المُؤقتُ الأبَديّ

الزَّمنُ في غَزة: ذلك المُؤقتُ الأبَديّ

الزمن والمكان شرطان متعالقان في الحياة كما في النص، فلا حياة خارج الزمن أو المكان، وبالتالي لا كتابة خارجهما أيضاً. وعندما نقرر أننا "موجودون" حقاً فإننا نلتفت من حولنا لنجد لأنفسنا حيزاً عابراً في سياق "هنا والآن". وفي هذا السياق نُعرِّف لحظة وجودنا عبر بُعدٍ زمني وآخر مكاني: أقدامنا على الطريق، وقلوبنا تخفق بالدقائق والثواني (من الميكرو ثانية حتى الأُتو ثانية). ولكن ما الذي يتغير فينا ومن حولنا لو اختلَّ هذا التعالق الفلسفي/ الفيزيائي بين هذين الشرطين، الزمان والمكان، بفعل قوة احتلال؟ لو أصبح المكان خارج الزمن، وأصبح الزمن معلقاً بلا مكان، وكأنه قيمة كمِّية بلا اتجاه في فيزياء هذا الفضاء؟ وكيف للشعر أن يصغي إلى الحياة تحت هذا الظرف فيبعثها كتابةً تعيد للزمن المغلق الرتيب دورة أفلاكه، بعد أن ضعفت أوصاله التي تشده بالمكان؟


غزة المحاصرة هي الأمثولة الشاهدة الأبلغ على فداحة هذا الخلل الكوني في العلاقة بين زمن المكان ومكان الزمن. إنها هوَّة في جسد الخارطة، ثقب أسود تشرف عليه قوى العصر كما لو أنها تشرف على مختبر لعلم الأحياء، حيث تتحكم بمدى قدرة تحمُّل الكينونة البشرية لكل أساليب الإلغاء الممكنة، تحت ظروف مخبرية معينة، ولكي تقيس معجزات الجَلَد الإنساني وآخر حدوده المفتوحة على نهايات التاريخ، وذلك بتحويل المكان إلى واقع مقفر يستحيل فيه الواقعيُّ فضلاً عن الحلم. فما زالت غزة، منذ بدايات الحصار صيف 2007، وهي تلعب دور حجر التوازن الميِّت بين أقطاب المجتمع الإسرائيلي وأطياف قواه وتشكيلاته السياسية، من اليمين الصهيوني إلى اليسار الصهيوني. وعلى دم شهدائها الطازج يصطلح الأعداء مع الأعداء قُبيل أن يذهبوا معاً إلى صيغة توافقية مشتركة لصناديق الانتخابات المقبلة. وفي غزة تكتشف المؤسسة العسكرية في إسرائيل الحرب كـ"رياضة قومية"، على حد تعبير الشاعر الفلسطيني عبدالرحيم الشيخ. 


هذا ما يحدث في غزة تقريباً منذ ستة عشر عاماً من الحصار الذي يفرضه الاحتلال على سكَّان القطاع، حصار على ما يصدرونه من جرحى ومرضى ومهربين، وعلى ما يرد إليهم من مواد بناء وكهرباء وأدوية. ولو جربنا اقتراح تشبيهات ملائمة لوجدنا أكثر من صورة أو استعارة تؤطر هذا المكان المؤطر بالحصار وتعبر عن مأزق الحياة في ساعته الفارغة التي تدور عليها خناجر الوقت. كلها صور تخرج من فكرة "المؤقت" الذي يكاد يتأبَّد في تلك القطعة المطوقة من الأرض، الممزقة بأحدث التقنيات الصاروخية لدى الطيران الإسرائيلي على مدار عقد ونصف: سجن بسماء مكشوفة؟ مشنقة معلقة لخنق الهواء المعلَّب؟ قنبلة موقوتة؟


يرى الإسرائيليون أنها سياسة إجرائية ليس إلا، هدفها في نهاية المطاف (أو نهاية التاريخ) تحقيق الإبادة البطيئة للشعب الذي يتوالد كل يوم من جرح التراب. أما على المدى القريب، وفي ظل الحاضر الغائب، فهي نوع من العقاب الجماعي الذي يسعى لتجميد الفلسطيني في "المؤقت" إلى الأبد، وتحويل الزمن الفلسطيني الراهن إلى بطالة يومية تتمدد في حياة السكان حتى الاختناق.


أفكر بمن يكتب في القطاع المحاصر، أفكر بمن يحاول شعراً هناك لكي يعيد الزمن المحلي لحركته الخطية، فيكتشف أن القصيدة هناك بلا زمن هي الأخرى، محاصرةٌ تدور على نفسها وتسقط في تعريف الآخر العدو قبل تعريف الذات… وأفكر أخيراً إن كان هذا السؤال، عن جدوى الزمن في القصيدة المحاصرة، ضروري إلى هذا الحد وفي هذا التوقيت بالنسبة للشاعر الذي يكتب من غزة، كما هو بالنسبة للشاعر الذي يكتب خارج إقليم ذاك الحصار.


ولكن لأن الزمن في غزة "هو الزمن الأبطأ في العالم" كما يقول عبدالرحيم الشيخ في كتابته عن "الزمن الموقوت: نكبة فلسطين ومسارات التحرر" فهذا يعني أن القصيدة في غزة متمردة من الأساس على شروط الزمن العالمي، زمن الثقافة المعولمة والحساسية الشعرية الجديدة، في هذا التوقيت الحاسم من الوجود الفلسطيني في غزة. ففي الوقت الذي يعيش فيه شعراء العالم صراعهم مع الزمن السائل والمتسارع من أجل استيقاف الهنيهة وتحويلها إلى مادة للخلود، ينسى الشاعر المحاصر في مدينته المحاصرة ساعته، ليذهب في مواجهته الملحمية مع الدهر وكواكبه التي لا تجري. 


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة