عبدالله حبيب: «الكتابة بكل نَمَل الكآبة الممكن»


كُنا مساء الثلاثاء الماضي في مكتبة «مجاز» بمسقط، حيث أعدَّ الأصدقاء في المكتبة مساءً صغيرا وحميما للقاء الأديب والناقد السينمائي العماني عبدالله حبيب. قُبيل ذلك المساء بساعات قليلة فقط خطَر على ذاكرة فيسبوك أن تذكرنا بأن موعد لقائنا المزمع مع ضيفنا المضيف سيصادف -دون قصد أو تخطيط مسبق- مرور خمس سنوات بالضبط على حوارٍ سابق له وشامل مع سليمان المعمري في مكتبة روازن، في مقرها القديم بالخوض، وقد بقي ذلك الحوار هو الذكرى التي أؤرخ بها، شخصيا، لقائي الأول شبه الشخصي مع عبدالله حبيب في 29 من أغسطس عام 2018. فأحببتُ هذه المرة أن أدخل إلى ساحة الحوار مع عبدالله حبيب عبر عنوان مباشر يجمع السينما والكتابة بالحياة ومن خلالها؛ في مثلث متساوي الأضلاع ممثلا بثلاث كلمات مفتاحية تتقاطع فيها سيرة عبدالله حبيب شخصا ونصا دون أن تختزل هويته، مع الاعتبار بأن السينما والكتابة، أو لنقل ثنائية البصري واللغوي في تجربته، لم تأتِ دائما إلا كتنويع جمالي مشتق من فعل الحياة نفسها، في ماضيها ومضارعها، مع تطرف شديد وغالب لصالح الكتابة على حساب أي شيء آخر، في «أحسن الأحوال وأسوئها» حتى على حساب ضجعة النوم التي يستريح الجسم فيها من سهاد العيش؛ لأن «أعظم الكتابات تحدث أثناء النوم» كما يقول.


محاورة عبدالله حبيب لا تذكرني إلا بما قاله سليمان المعمري ذات مرة حين أشار إلى أنه لا متعة تضاهي قراءة ما يكتبه عبدالله حبيب سوى متعة مجالسته والحوار معه، مع أنه -أي عبدالله- لا يمل من التَّعذر عن الحديث الشفاهي المفتوح في المناسبات العامة بحجة اعتقاده أنه أقدر على التعبير الكتابي عن نفسه مقارنة بموهبته في الارتجال العام، والتي من وجهة نظري لا تقل جمالا عن موهبته في الكتابة بعيدا عن العيون. إلا أن إجاباته المرتجلة التي تستدعي ذلك التداعي العفوي لخواطره اللحظية المتداخلة، وتقاطع ذكرياته الشخصية مع شواهده المقتبسة من كتَّابه وشعرائه وفلاسفته الأثيرين، كل ذلك المزيج المصهور في اللغة وشفافية الكلام هو ما يصعِّد من متعة الحوار معه، حيث عادة ما يتداخل الشخصي بالعام والذاتي بالموضوعي، بلا ازدواجية مملة أو فصل تجريدي يلغي الأنا لصالح «مجموع متوَّهم».


إلى جانب متعة الحوار مع عبدالله حبيب يمكنني أن أتحدث عن متعة خاصة تتعلق بالكتابة عند عبدالله حبيب، ولعلني لا أملك أن أعبر عنها إيجازا سوى بتنويع جديد لما قاله سليمان المعمري قبل قليل؛ فسأقول: إن لا متعة تضاهي قراءة ما يكتبه عبدالله حبيب عن شيء آخر سوى متعة قراءة ما يكتبه عبدالله حبيب عن الكتابة نفسها. فكما أن هناك قُراءً مولعين بالتغني بفعل القراءة وجمالياتها (أكثر من القراءة نفسها أحيانا) هناك في المقابل كُتَّاب مشغوفون بالكتابة عن الكتابة وطقوسها وحيل استجدائها في عز القحط ويباب الأفكار وجفاف المخيلة، إلى حد الذي يمكن الحديث معه عن تطور فن خاص من فنون الكتابة، قد لا يبدو جديدا تماما، فن أدبي يجوز وصفه بأنه فن الكتابة عن الكتابة نفسها، وهو أسلوب حري بالتأمل والملاحظة في تجارب العديد من الكتَّاب، يشبه إلى حد ما نظرية تبرير الذات وتفسيرها من خلال الذات نفسها، بخلاف السعي لتفسير الذات من خلال العالم.


فمن يقرأ لكاتب مثل عبدالله حبيب وهو يكتب شيئا عن الحب أو السينما أو السياسة، أو يعلق تذكارا شخصيا على صفحته في فيسبوك، أو يكتب شذراته السريعة على عموده الأسبوعي «أنساغ» في جريدة عُمان، سيجد بين سطوره ما يشف عن هواجس الكتابة ومكابداتها في الليل والنهار. ولكن عبدالله، بخلاف كثيرين ممن يكتبون عن الكتابة، لا يميل إلى «الرمنسة» الدعائية لذلك الفعل السري المضني في رقم الحروف والكلمات باستخدام لوحة المفاتيح، بل يصفه في الكثير من الأحيان بالسلوك القهري المرتبط ارتباطا خطيرا وحرجا بإمكانية العيش والبقاء على قيد الحياة، حتى لكأن الكتابة تبدو كممارسة أقرب لتعذيب الذات. ولعل شيئا من كلمته التي ألقاها في حفل تكريمه بمناسبة فوزه بجائزة الإنجاز الثقافي البارز في عُمان لعام 2011 هو كل ما يتردد في ذهني وأنا أسمع عبدالله حبيب يتحدث عن الكتابة، أو أقرأ له وهو يكتب عنها: «تزيدني الكتابة جهلا بنفسي، وهذا من حميد شِيَم الكتابة والكآبة معا. بيدَ أني أحاول تعلم الكتابة بكل نمل الكآبة الممكن، لأن قدراتي في أي شيء آخر غير الكتابة معدومة بالكامل تقريبا... قدري هو أني لا أستطيع الكف عن الكتابة لأنني لم أعد أرى أن هناك ما يستحق الحياة غيرها».


تعليقات

المشاركات الشائعة