وحشة الألفة... وجمال الغرابة

 






«الجمالُ بداية الرُّعب».

ريلكه


قبل نحو شهر كنت قد كتبتُ عن الممل، عن الوقت حين يأسنُ في بركة الماء من فرط التكرار والاعتياد وطول الانتظار لحدث جديد يحررُ الساعات من دورانها الدائري الثقيل وارتهان حياتنا اليومية للروتين. تحدَّثتُ تحت عنوان «مَلَلٌ في المكان... مللٌ في القصيدة» عما وصفته بالألفة الاستباقية التي تختمر لحظة التلقي لكل ما هو جديد من حولنا، عن الهدوء الذي يصاحبه تراخٍ واضح في انفعال الحوس لحظة اللقاء الأول أو القراءة الأولى؛ حيث تفسح الألفةُ الفراغ لشعور أقرب للإحساس الطاغي بالأمان، ما ينعكس على برود انطباعنا الأول، ماحياً أثر الغرابة السحري في ذلك الحيز الصغير من الوجود بالقرب من عملٍ فني أو مشهد طبيعي.


إنها الألفة التي تعززها الحداثة الرقمية اليوم، وتحيلنا بدورها للتفكير ملياً بالآثار الهدامة للتكنولوجيا، في ما يخص التلقي، على المدى الطوليل، وذلك بفعل ما تطبعه التكنولوجيا من تبلُّد في عمل الذاكرة من خلال التدفق الهائل للصور والمقاطع المرئية عن أمكان لم نسافر إليها من قبل، ولم يسبق لنا الاقتراب جسديا من حيزها الجغرافي والمناخي؛ ما يعني أن السياحة، في ظل هذه التخمة البصرية المشبعة بالألوان والأشكال، ليست سوى نشاط نمارسه من أجل «إشباع التوقعات» التي ندمن عليها باستمرار عبر تصفحنا المستمر لوسائل الإعلام المرئية ومواقع التواصل الاجتماعي.


الهوس بإشباع التوقعات لا يتوقف عند حدود التلقي لكل ما هو بصري فحسب، فعند قراءة الأدب تُحاصرنا المشكلة ذاتها؛ وسأستعين هنا بما يقوله الناقد الأمريكي الراحل هارولد بلوم متحدثا عن قراءة الأدب، في منجزه النقدي الضخم «التقليد الأدبي الغربي: مدرسة العصور وكُتبها»: «حين تقرأ عملاً أدبيا قويا للمرة الأولى، فإنك تصطدم بالغرابة، أو بدهشة مروعة، وليس مجرد إشباع للتوقعات. اقرأ من جديد وستجد أن القاسم المشترك بين «الكوميديا الإلهية» و«الفردوس مفقودا» و«فاوست- الجزء الثاني» و«حاجي مراد» و«بيير جاينت» و«عوليس» و«النشيد الشامل» هو نزعة الخارق، والقدرة على جعلك تشعر بأنك غريب في وطنك».


ما يشدني في هذا الرأي المقتبس عن العاشق الكبير لشكسبير هو تركيزه على قوة الإحساس بالغرابة لحظة التواصل مع العمل الأدبي. أما «الدهشة» فهي لفظة أتوجس، شخصياً، من الاعتراف بها كمعيار فني أو قيمة جمالية بحد ذاتها؛ فحالة الاندهاش بالنسبة لي ليست أكثر من تماسٍ كهربائي عابر، أو سلسلة من الصدمات اللحظية التي تعبث بمستوى هرمون الأدرينالين في عروقنا خلال ثوانٍ من الصعقة الخاطفة، أمام تسديدة مباغتة من كريستيانو رونالدو في الزاوية التسعين من المرمى، أو عندما نجلس في المقاعد المعتمة من صالة السينما، طبعاً بحضرة البطل الأمريكي الخارق، في فيلم من أفلام الإثارة الأمريكية. أما إذا تطرقنا للكلام عن الدهشة التي يحكون عنها في قصيدة الهايكو، بنسختها العربية على الأقل، فهذه دهشة يمكنني أن أستوعبها كقيمة دعائية، تذكرني أحيانا بأساليب التسويق وحيل الإعلانات التجارية.


هناك مصطلح آخر، وهو «الغموض» الذي درجنا على وصم حركة الشعر الحديث به، وهي صفة يعترف بها الشعراء والنُّقاد عادةً كسمة إيجابية خلاقة من سمات هذا الشعر، إلا أن هذه السمة نفسها غالبا ما تكون مدعاة لتشكي القراء. ولكن من قال إن الغرابة والغموض صفتان تتبادلان ذات المعنى؟ تبدو لي صفة الغرابة أكثر بساطة وأكثر عراقة، بخلاف الغموض. كما أن الغرابة صفة توحي بأنها غير متكلفة وغير قصدية، في حين أن الغموض شَرَكٌ منمَّق، قد يدخل فيه الشاعر بكامل وعيه وإرادته سعياً للاختلاف، وقد يكون بذلك في طريقه لخسارة القيمة الأسمى والأهم؛ وهي الغرابة.


تتجلى الغرابة عند تأمل عمل البديهة في الشيء، كصفة نائمة قابلة للاستثارة والتفاعل مع المتلقي، ولو أمعنا التأمل أكثر لوجدناها حولنا كامنة في كل شيء؛ في السلاسل الجبلية التي نمر عليها يومياً بلا اكتراث على جانبي الشارع، أو في حصاة نادرة غريبة الملمس يعثر عليها طفلٌ بين حصى الوادي.


لا شك أن تلبُّس العمل الفني بالغرابة يخفي استفزازا هادئ الوتيرة للذاكرة وعاداتها القديمة. وقد تبكينا الغرابة بلا استعطاف مبالغ فيه أو استدرار للشفقة كما يحدث في الميلودراما. وربما وجدناها أكثر حضوراً في الخرافة، أو في الجنون، تماما كالغرابة التي تنبعث من مشهد غناء المجنون في فيلم «البيت أسود» لفروغ فرخزاد، أو في استخدامات الألوان في أشعار فيديريكو غارثيا لوركا.






تعليقات

المشاركات الشائعة