"البيت أسود" لفروغ فرخزاد



كيف للسينما أن تذهب للتسجيل والتوثيق المباشر دون أن تتورط كالعادة في اختراع صُور موازية للأشياء، صور هي في الغالب أقوى من الأشياء نفسها؟ كيف لها أن تقاوم إغراء المبالغة في البلاغة لصالح التجريد الصارخ الذي تطلُّ عليه الكاميرا كميدان مسكون بعمل الاستعارات، هناك حيث على الصانع ألا ينشغل سوى بالمهمة الأهم؛ وهي التعامل مع القُبح الحقيقي الصريح كخام بصري للعمل السينمائي؟


هذه أسئلة جديرة بأن نتدبر إجاباتها على مدار عشرين دقيقة في شريط إثنوغرافي هو الإنجاز السينمائي الوحيد للشاعرة الإيرانية التي قدَّمتْ من خلال شخصها ونصها نموذجا للاحتجاج الشعري على تقاليد المجتمع المغلق، إنها فروغ فرخزاد (1934- 1967) في فيلمها الوثائقي «البيت أسود»، الفيلم الذي أخرجته قبل 5 سنوات فقط من رحيلها المأساوي المبكر إثر حادثٍ مروري غامض، ليفوز فور صدوره بالجائزة الكبرى عن فئة الأفلام الوثائقية في مهرجان أوبرهاوزن الدولي للأفلام القصيرة، والذي كانت تنظمه ألمانيا الغربية في تلك الفترة.


تذهب فروغ فرخزاد في فيلمها هذا إلى الشمال الغربي من إيران، إلى مستعمرة الجُذام المعزولة في مدينة تبريز من أجل تصوير فيلمها الأقرب ليكون قصيدتها المرئية اليتيمة؛ وذلك للتداخل اللغوي بالبصري فيه، مستعينةً بإشارات قرآنية وأخرى مقتبسة من التوراة مضمنةً في قراءتها التي ترافق المشاهد.


في جو تفوح منه رائحة المرض والجراح المتقيحة تختلس الكاميرا تلفتاتها في «البيت أسود» حيث يعيش مجتمع من الرجال والنساء والأطفال المصابين بمرض الجذام المعدي. وبالرغم من أن بيئة الفيلم في مستعمرة الجذام كانت عبارةً عن مجتمع مُصغرٍ مطرود من العالم ومعزول عنه، إلا أن ذلك المجتمع لم يكن لعدسة فروغ الناقدة سوى اقتباس مُصغر عن المجتمع الخارجي الكبير الذي تفتك به الخرافة والجهل والاستبداد في مناخ محفز لعدوى الأمراض الاجتماعية والسياسية الخفية. ومن هنا يمكن تأمل المرض في الفيلم كرمز لنقد النظام الاجتماعي والسياسي السائد في إيران خلال خمسينات وستينات القرن العشرين، إبان فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، حيث إن أعراض الجذام التي تتضح ببطء في تشوهات جسد المريض هي الأعراض ذاتها التي تنخر بصورة مجازية في حياة الملايين من البشر خارج حدود تلك المستعمرة البائسة.


في أحد المشاهد يطلب المعلم من التلميذ أن يضع كلمة «بيت» في جملة مفيدة على اللوح، فيكتب التلميذ: «البيت أسود» ومن هنا جاء عنوان الفيلم. وفي مشهد آخر يسأل المعلم التلميذ أن يسمي له ثلاثة أشياء قبيحة فيجيب التلميذ بعد تردد قصير: «يدان، رجلان، رؤوس»! لكأنما الجسد بكامل أعضائه للطفل الذي تفتَّحت عيناه في ذلك المستنقع المريض والمعدي ليس سوى رمز لكل ما هو قبيح!


نعود لنتذكر أن فروغ كانت قد استهلت فيلمها القصير بعبارة تقول: «ما من شحٍ في بشاعة هذا العالم، ولو أغمض الإنسان عينيه عنها فإنها ستتكاثر، لكن الإنسان حلالُ مشاكل». تكفي هذه العبارة لوحدها لتكون إنذارا استباقيا للمُشاهد بما ستقوله الكاميرا عما قريب، كما أنها إفادة تذكر بإن المشهد السينمائي ليس بالضرورة مَعرضا للفُرجة الماتعة أو السقوط في الجودة الخادعة للصورة المتحركة، بل هو دخول مباشر في الألم البشري.


بالرغم من كون نظام الشاه نفسه كان مستهدفا بشكل غير مباشر في الخطاب النقدي الذي يقدمه الفيلم، إلا أن بعض المصادر تشير -للمفارقة- إلى أن مبادرة الفيلم كانت قد جاءت في البداية تكليفا من الشاه شخصيا للمخرج الإيراني إبراهيم غولستان الذي نعرفه عند مطالعة سيرة فروغ فرخزاد كحبيب للشاعرة التي دخلت شابة صغيرة إلى أستوديو غولستان في طهران بعد فترة وجيزة من انفصالها عن زوجها، فكانت علاقتها بغولستان فاتحة لارتباطها بعالم السينما، قبل أن يتكلل ذلك الشغف بإنجاز «البيت أسود» الفيلم اتضح بعد سنوات من عرضه أنه قد أسس لموجة جديدة في السينما الإيرانية.

تعليقات

المشاركات الشائعة