الصداقة المستحيلة في «رحلة إلى الهند»

 


تمثل مكتبة الأدب العالمي المكان الأكثر حرية ومصداقية للتواصل واكتشاف النماذج الإنسانية تمهيدًا لدراستها واستيعاب اختلافها. ويمكن القول إن مصداقية الأدب نابعة في الأساس من عدم ادعاء الأدب للحقيقة كما تدعيها ألوان مختلفة من الكتابة (التَّأريخ على سبيل المثال) بل إن سلامة الأدب تحتم عليه شفاءه من الحقائق للمُضي خلف أحابيل المخيلة والبلاغة إلى خلخلة المعتقدات والثوابت التي تشيد اللغة محلها عوالمًا من الإسقاطات والتصورات الانطباعية. لكن الأدب من هذه الناحية بالذات، مجروح بالشك في قدرته على حمايتي -كقارئ- من تبادل سوء الفهم مع من يُطلق عليه اليوم في الكتابة المعاصرة، «الآخر». كما أن الأدب في الوقت نفسه مُدان عادة بتهمة إغواء المؤرخ، فمنذ النقوش المسمارية حتى لوحة المفاتيح والكتابة الأدبية تعثر على نفسها في مستنقع الشبهات تلك، الشبهات الكامنة في المسافات الحاسمة بين الأجناس والأطياف والثقافات؛ فهو يحاور الفروق والأضداد بين الرجل والمرأة، الماضي والحاضر، الحياة والموت، لا ليشفي أسئلته، بل ليُبقي الحوار ممكنًا وحيًا على وتر الاختلاف، وهنا أستدعي أدونيس إذ يقول: إن الثقافة الحية هي «تأسيس الفروقات». كما أن اللغة بلا «آخرين» تظل مهددَّةً بالقطيعة والعزلة، أي بالموت، وهذا ما يعني أن الأدب موكل بمهمة استضافة الغرباء، حتى أولئك المعترف بهم كأعداء.


وربما جاء الأدب كاعتذار متأخر، أو محاولة خجولة للتصالح مع الماضي وتصفية آخر الحسابات مع أجيال متأخرة من الضحايا، وهذا تقريبًا ما أسس لانطباعي الاستباقي عن تحفة إي. إم. فورستر، «رحلة إلى الهند»، التي ذهبتُ إلى قراءتها خارجًا من أجواء الفِلم الروائي الشهير المأخوذ عنها A Passage to India، الذي أنجزه صاحب «لورنس العرب»، المخرج البريطاني الفذ ديفيد لين عام 1984.


لم تكن «رحلة إلى الهند» محاولة تصالحية كما تخيلها القارئ الشرقيُّ منذ القراءة الأولى، وهو المتأهب- في مرحلة ما بعد الاستعمار- لتفسير أي محاولة غربية من هذا النوع على أنها اعتراف بذنوب الماضي الاستعماري، أي اعتراف بالشخصية الشرقية وموقعها الحضاري كضحية سابقة للمجد الإمبراطوري «الذي لا تغيب عنه الشمس».


لقد عرف الأدب الإنجليزي أعمالًا كثيرة عن الهند، مثلما شهد الأدب الهندي المكتوب بعد الاستقلال أعمالًا مهمة تتناول الحياة الهندية خلال حقبة الراج البريطاني الممتدة لأكثر من قرن، إلا أن الأدبين كانا في الغالب صوتًا لتبني وجهة نظر واحدة عن «الآخر»، هي وجهة نظر الفريق الذي ينتمي إليه الراوي. أما فورستر فقد كان سيد المفاجأة السَّباق إلى صناعة حكاية لا ينطق أحد فيها باسم أحد. أطلق أبطاله ليصيروا أشخاصا الحياة العادية الذين لا يتكلمون بإملاءات من الراوي، بل بما تقترحه انطباعاتهم ومشاعرهم، متأثرين طبعًا بالضغط الذي تمارسه الجماعة على الفرد في تبني انطباع أو سلوك معين تجاه جماعة مغايرة. وقد كان ديفيد لين وفيًا لفورستر بحرصه على استقلال الشخصيات عن سُلطة المخرج.


ثمة ملاحظة حَرية بانتباهنا عند التمعن في علاقة الآداب المستعمِرة بالآداب المستعمَرة، إذ نجد أن الأدب الذي تكتبه الشعوب الخارجة من حقبة استعمارية يستغرق الكثير من الوقت للشفاء من آثار الاستعمار وعقدة الأبيض المهيمنة على المخيلة الشعبية، كما هو الحال مع أدب المغرب العربي في علاقته بآثار الاستعمار الفرنسي البائد، وكما هو واضح في علاقة الأدب الهندي بالماضي الاستعماري الذي خلفه الإنجليز في التفاصيل اليومية لحياة الإنسان الهندي الذي ما زال يتردد على هاجس حضور الرجل «ذي الأنف الأحمر». أتذكر هنا رواية «إله الأشياء الصغيرة» للروائية الهندية أرونداهتي روي، التي كُتبت باللغة الإنجليزية. فبالرغم من أن أحداثها تدور في هند ما بعد الاستعمار، إلا أن تفاصيل الرواية مليئة بالتلفت الداخليّ إلى رجل أبيض موجود في مكان ما من الحكاية، وفي كل مكان. فروي مثلاً، تستوقفها إهانة تتعرض لها إحدى الشخصيات الهندية في روايتها لتقول: «... كانت إهانة لإذعة صيغت بإنجليزية جيدة». في حين أن الآداب المنتصرة للمستعمرين لا تنشغل بالماضي إلا من باب المحاولات اليائسة لتأنيب الضمير القومي أو المراجعات البحثية المجردة.


ثمة جسور مهدومة بين الأبيض الإنجليزي والهندي الأسود، بين مستعمرة التاج والكوخ الهندي المتقشف. تفتتح كاميرا ديفيد لين المشهد الهندي بالمتناقضات: حركة مرور فوضوية، ملابس بألوان عشوائية، وطقس جنائزي غريب، يقابلها على نحو فوقي صورة الإنجليزي النظيف المرتب، المقتصد في الكلام بما يعكس موقعه النبيل والمهم. كل تلك الفجوات الطبقية والعنصرية المتفاقمة بين ضيوف المكان والمضيفين، والتي أسدل عليها الستار بعودة أديلا الخائبة إلى إنجلترا، في وقت ذروة صعود حركة الاستقلال الهندية، كانت تمهيدًا منطقيًا لنبوءة فورستر باقتراب أفول شمس الإمبراطورية البريطانية عن الأراضي الهندية، وانفصال الهند عن باكستان الأمر الذي لم يستغرق سوى عقدين من الزمن على صدور الرواية حتى يصبح واقعًا.


بالنسبة لي، فإن «رحلة إلى الهند» رواية عن الصداقة في المقام الأول، مهما انشغلت بها الدراسات الأكاديمية المهتمة بتتبع النص الاستشراقي وتشريحه، ومهما حُمِّلت في كثير من الأحيان إسقاطات سياسية فوق ما يحتمله التأويل، خاصة بعدما أعادها فيلم ديفيد لين إلى الواجهة من جديد. ولكن أي نوع من الصداقة ذاك الذي يحاول فورستر بناءه بين المستعمِر والمستعمَر؟ يخلص سياق الرواية إلى أنها صداقة مستحيلة، مهما أبدى طرفاها أشفَّ النوايا.


إن الهندي والإنجليزي لا يمكن أن يكونا على صداقة حقيقية قبل أن ينسحب آخر سيد إنجليزي من مستعمرته عائدًا إلى بلاده البعيدة، هذا ما تشف عنه الرواية. بل تنطق إحدى شخصياتها الإنجليزية بنبرة عنصرية لتقول «إن المتاعب تبدأ بمجرد أن يصبح الهندي والإنجليزي قريبين». فيبدأ القلق والتصعيد من جملة الآنسة أديلا، التي لم تأتِ إلى الهند لتتعرف عليها بعيون مواطنيها المستعمرين، بل لتتعرف على الهند الحقيقية الكامنة في المعابد المهجورة والغابات وكهوف مارابار الرامزة لغموض الشخصية الهندية بالرغم مما توحيه من سذاجة وبساطة خارجية:

«I want to see the real India».


وهكذا ذهبت الشابة أديلا، هي ومور، إلى «الهند الحقيقية» بصحبة دكتور عزيز.


ليست «رحلة إلى الهند» درسًا في الحضارة ولا في انهيار الحضارة. كما أنها ليست وثيقة للمرافعات التاريخية، تدفعني للاعتراف بأنها كانت «منصفة» أو«محايدة»، كما كتب الكثير من النقاد عنها. وإنني أشكك في شرعية نقد الأدب من باب الإنصاف التاريخي والسياسي. إن «رحلة إلى الهند» كانت تحرشًا جريئًا واستباقيًا بالماضي الذي كان يومها في محل المستقبل، باعتبار أن الرواية كانت قد صدرت قبل استقلال الهنود.


تعليقات

المشاركات الشائعة