جورج عبدالله: أكثر من أسير حرب

بطولات تُمحى وأخرى تكتب، أبطال جدد يصعدون على مسرح الواقعة من التربة نفسها التي يدفن في قلبها أبطال سابقون. وبين هؤلاء وهؤلاء يُغيّب الزمن الشهود، ويبقى جزء مهم من الحكاية مواربًا في ضمائر رجال قد يتجاوزهم قلم المؤرخ سهوا وهم وراء القضبان. وسواء كانوا في سجون الاحتلال بالأرض المحتلة، أو في أعتى حصون الإمبريالية في أوروبا وأمريكا، فهم بلا شك فلاسفة الحرية الذين يجترحون أجمل تعاريفها من جدران الزنزانة، ويوقدون لنا من ظلام عنابرهم شموعًا تنير السبيل إلى العدالة المسلوبة، في عالم تزحف فيه الزنازين العلنية والسرية. وواحدٌ من بين هؤلاء الكثيرين هو الأسير العربي اللبناني جورج إبراهيم عبدالله الذي سيكمل في 24 أكتوبر من العام الجاري 38 عاما في السجون الفرنسية، منذ اعتقاله عام 1984.

غنية سيرته عن اجترار التعاريف والمقدمات، لكن التجاهل الإعلاميّ الذي لحق بشخصه خلال عقود من اعتقاله يضعني في حيرة تعريف أقدم أسير سياسي في أوروبا. فهو على الأقل مناضل لبنانيٌّ، ولد شمال لبنان عام 1951، لعائلة ذات أصول مسيحية مارونية. وإلى جانب انخراطه في العمل العسكري المباشر وتأسيسه للفصائل المسلحة الثورية في لبنان، تمتع بثقافة أُممية واسعة وفكر شيوعي صارم. وبينما كان يعملُ معلمًا في إحدى القرى اللبنانية، خلال سبعينيات القرن الماضي، اقتحم جورج عبدالله ميدان المقاومة مع رفاقه في صفوف الحركة الوطنية لمواجهة 25 ألف جندي دفعت بهم إسرائيل لاجتياح جنوب لبنان، في هجوم عسكري واسع عُرف بعملية «الليطاني» التي انطلقت في 14 مارس عام 1978. جُرح جورج عبدالله خلال ذلك العدوان، وما كاد جرحه يلتئم حتى بدأت بوادر الاجتياح الإسرائيلي الشامل للبنان في 4 يونيو من عام 1982، ضمن المشروع الإسرائيلي الأمريكي للقضاء على البندقية الفلسطينية اللبنانية المقاومة.

انتهت الحرب بالخروج الملحمي لفصائل الثورة الفلسطينية عبر البحر إلى المنافي العربية الجديدة. وفي غمرة الدمار والجريمة التي خلفها شارون وراءه في لبنان، لم يجد المناضل الأسير بدًا من الالتحاق برفاقه في العمل المسلح لمطاردة رأس الأفعى في مختلف العواصم الغربية، تحت الشعار الذي كان قد أطلقه وديع حداد: «وراء العدو في كل مكان».

في مدينة ليون الفرنسية تعرض جورج عبدالله لملاحقة واسعة من قبل شبكة عملاء الموساد، التي سلمته للسلطات الفرنسية عام 1984. في بادئ الأمر، لم تبرر السلطات اعتقاله سوى بتهمة «حيازة أوراق ثبوتية غير سليمة». لكنها عادت لتصدر بحقه حكمًا بالسجن المؤبد في 1987، كمدان بتهمة التواطؤ في عملية اغتيال العقيد شارل راي (مسؤول الاستخبارات الأمريكية في باريس والمتورط في الحرب على لبنان عام 1982) واغتيال عميل الموساد الإسرائيلي ياكوف بارسيمنتوف. إضافة إلى ما ألصقته به من تهم تتعلق بالإرهاب والعنف.

تجدر الإشارة هنا إلى أن المحكوم بالمؤبد وفقًا للقانون الفرنسي يخضع للحبس مدةً تتراوح بين 18 إلى 20 سنة، قبل أن يصبح مؤهلًا للإفراج المشروط عنه. وهذا ما يعني أن جورج عبدالله كان من المفترض أن يكون حرًا منذ عام 1999، على الأقل! تسعة طلبات قُدمت حتى اليوم للإفراج المشروط عنه إلا أنها قُوبلت بالرفض في كل مرة.

في عام 2013 أعلن قاضٍ فرنسي قُبيل خروجه للتقاعد عن موافقة المحكمة على طلب الإفراج عن جورج عبدالله، بشرط توقيع وزير الداخلية الفرنسي على القرار. احتشد آلاف اللبنانيين واللبنانيات في العاصمة بيروت انتظارًا لعودة الأسير المُحرر من السجون الفرنسية إلى وطنه. لكن جورج عبدالله لم يعد لأن وزير الداخلية الفرنسي ظل يتجاهل التوقيع على قرار الإفراج، حتى أعلنها صراحةً بأن شخصية «إرهابية» كجورج عبدالله يجب أن تبقى في السجن!

قضية جورج عبدالله، المعلقة منذ أربعة عقود، لا يمكن الكتابة عنها إلا بوصفها فضيحة جديدة لتاريخ النزاهة الفرنسية المطعونة منذ سنواتها الاستعمارية. بل يذهب الشك عميقًا في حقيقة السيادة الفرنسية، عندما نعلم بأن منع الإفراج عن الأسير اللبناني جاء بعد رضوخ السلطات الفرنسية للضغوط الأمريكية. وهذا ما أكده جاك فيرجيس في أكثر من مناسبة، وهو المحامي الأصيل عن جورج عبدالله، قائلًا: إن حرية موكله أضحت رهن التخادمات السياسية بين الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل. ويكفي أن نتذكر أنه في اليوم التالي لإعلان القضاء الفرنسي في 2013 نبأ الإفراج عن جورج، أدانت الولايات المتحدة القرار بلسان المتحدثة باسم خارجيتها، فيكتوريا نولاند، التي ردت على سؤال أحد الصحفيين عن الموقف الأمريكي بشأن القرار الفرنسي، قائلةً: «نشعر بالخيبة إزاء قرار المحكمة الفرنسية بإطلاق سراح جورج عبد الله. لقد عارضنا باستمرار إخراجه من السجن. لا نعتقد أنه يتعين الإفراج عنه، ونواصل مشاوراتنا مع الحكومة الفرنسية بشأن ذلك». ومن القرائن المخزية للسيادة الفرنسية وثيقةٌ مسربة كشف عنها موقع ويكيليكس عام 2015، وهي رسالة عبر البريد الإلكتروني تبادلتها هيلاري كلينتون (وقد كانت وزيرة خارجية أمريكا آنذاك) مع نظيرها الفرنسي، لتحضه على التدخل الفوري منعا للإفراج عن جورج عبدالله: « على الرغم من أن الحكومة الفرنسية ليس لديها سلطة قانونية على قرار محكمة الاستئناف، إلا أننا نأمل من المسؤولين الفرنسيين البحث عن أساس آخر لتحدي قانونية القرار» أي أن كلينتون تدعو بكل صراحة الحكومة الفرنسية إلى استبدال الأساس السياسي بالأساس القانوني للقرار! فهل هذا هو إرث الحرية والاستقلال الذي تبقى من جمهورية الجنرال شارل ديغول؟!

لقد ذهبت فيكتوريا نولاند بعيدًا في تبريرها رفض قرار الإفراج، زاعمةً بأن جورج «لم يعبّر يوما عن ندمه على جرائم القتل التي ارتكبها»، ومع تحفظي الشخصي على المعجم التجريمي الذي يستخدمه الخطاب الرسمي في الغرب عند تناول قضية جورج عبدالله، يبقى تصريح نولاند شهادة ضد لواء الحريات الذي ترفعه الدولة الفرنسية، في وقت تواصل فيه حرمان جورج من حريته بسبب قناعاته. ولا جديد في الجديد عن جورج عبدالله، فقد رفضت محكمة باريس الابتدائية، الخميس الماضي، طلب الوكيل القانوني للأسير بإلزام وزارة الداخلية الفرنسية تنفيذ الحكم القضائي السابق، مع تكرار وتدوير للحجج نفسها.

لم نسمع يومًا عن ملاحقة أجهزة الاستخبارات في أوروبا لعملاء الموساد الذين شنوا في عواصم أوروبية مختلفة، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أعنف حملات الاغتيالات الإرهابية لتصفية شخصيات فلسطينية بارزة كعز الدين القلق ومحمود الهمشري اللذين لقيا مصرعهما علي يدي عملاء الموساد في باريس نفسها التي تعتقل اليوم جورج عبدالله منذ 1984، لأسباب لم يعد لها علاقة بالأمن بل لأسباب سياسية تجعل من اعتقاله خطفًا ينتهك كل الأعراف الإنسانية والقوانين الدولية.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة