في الطريق لهزيمة الهزيمة

 

على مدى الأعوام الخمسة والخمسين الماضية أريق الكثير من الحبر، شعراً ونثراً، ندباً وتحليلاً وتأريخاً لهزيمة العام 1967، فيما يمكن اعتباره محاولة ثقافية "لمحو آثار العدوان" المشروع الذي كان الزعيم العربي جمال عبد الناصر شخصياً هو من افتتحه (بومضة من عقله الإعلامي محمد حسنين هيكل) بمجرد أن أطلق على الهزيمة التاريخية المروعة مصطلح "النكسة" في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم، بُعيد شهرين من الكارثة. لكن باب السؤال لم يوصد بعد على خبايا وأسرار حرب الأيام الستة التي ما تزال نتائجها الوخيمة حية ومستمرة في مجريات الحياة السياسية والثقافية في العالم العربي، خاصة في هذا المنعطف الحاسم من تاريخ الصراع، حيث نشهد تفاقم الخسارة الفادحة في الوقائع الجارية يومياً على الأرض المحتلة، وفي القدس تحديداً التي كانت الجوهرة المفقودة في هذه الحرب. ولن يصبح حزيران 1967 مجرد ذكرى حزينة ما دام الاحتلال مستمراً... ولن يتوقف الكلام.

غير أنَّ الذاكرة العربية الآن بحاجة إلى سماع الصوت المتأخر لأجيال تصعد من تراث الهزيمة لتوقف زحف الماضي نحو أراضي المستقبل، لا من أجل إعادة إنتاج المأساة أو تدويرها في قوالب جديدة، ولا لمواصلة جلد الذات والإمعان في تحقيرها كما هو سهل وشائع، بل من أجل اكتشاف لغة جديدة تحرر عبء الماضي من النظرة المتحجرة له، دون أن تتحرر منه بالضرورة. فأنى للكتابة أن تتوقف عند الحدود التي ترتضيها "الواقعية السياسية" في وقت حرج كهذا، وأنى لها أن تفشل وتتراجع عن مسؤوليتها التاريخية أمام الشلل الجغرافي المبين الذي خلفته هذه الحرب؟

كل الصور الغامضة التي تلونها مخيلتي وأنا أكتب شهادة الغائب عن هذه الحرب تختصر فقرنا للأمل، الأمل الجمعي المتعطش للحرية، حتى لو جاء هذا الأمل على سبيل الكذب احتيالاً على شروط الحاضر الوعر. وأحاول تخيل الحياة المصرية يوميةً ومألوفةً في مايو الحار من صيف ذلك العام.

مهما توترت خطب السياسيين وتصريحاتهم كانت الأصابع مرتخية. لكنه هدوء ما قبل العاصفة الذي يتكلل بزيارة المارشال مونتجمري، القائد السابق للجيش الثامن البريطاني، لأكاديمية ناصر العسكرية في 13 مايو، حيث التقى بعبد الناصر والمشير عبدالحكيم عامر، وألقى كلمته بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على معركة العلمين التي انتصر فيها مونتجمري على غريمه أروين رومل في الحرب العالمية الثانية(1). هي ساعات فحسب حتى بدأ المشهد ينزلق لهاوية الحرب في اليوم التالي إثر إعلان عبدالحكيم عامر حالة الطوارئ في القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة. اتضح لاحقاً أن هذا التحرك المفاجئ كان نتيجة لمعلومات استخباراتية غير دقيقة قدمها السفير السوفيتي ديميتري بوجيداييف لأحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجية. تدهورت الأوضاع وارتبكت اللغة حتى فجَّر الرئيس المصري حالة "اللا سلم واللا حرب" تلك بإعلان عريض على عدد 23 مايو من صحيفة الأهرام: "عبدالناصر يعلن إغلاق خليج العقبة". وأما التعبئة النفسية فكانت قد بلغت أوجها لدى الشارع المصري والعربي، والقلوب تدق والعيون معلقة على القدس.

وفي الأول من حزيران افتتحت السيدة أم كلثوم، بسينما قصر النيل، أكثر الأشهُر حزناً في تاريخ العرب الحديث بغنائها لكلمات صلاح جاهين:
"راجعين بقوة السلاح
راجعين نحرر الحمى

راجعين كما رجع الصباح
من بعد ليلة مظلمة..."

غير أن مكائد التاريخ كانت تدبَّر وتُكتب في مكان آخر بعيداً عن صوت أحمد سعيد على أثير إذاعة صوت العرب. فانطلاقاً من مبدأ القائل بأن "البادي أظلم" أصرَّ عبدالناصر على تلقي الضربة الأولى حتى لا يزج بنفسه ورجاله في مواجهة مع العالم بزعامة الولايات المتحدة، فأفسح السماء المصرية للطيران الإسرائيلي الذي تمكن خلال ساعات وجيزة من تدمير القوة المصرية على الأرض، وبدأت حكاية الأيام الستة التي غيرت ملامح الجغرافيا إلى يومنا هذا.

سُحقت جيوش الطوق العربية، احتُلت سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة، وسقطت الجولان المنيع بدون قتال... ثم أقفلت إسرائيل المشهد على الأرض المنهوبة وحطام الطائرات المحروقة على المدارج.

أدرك "الرجل الكبير" أنه هُزم، فأعلن استقالته ثم تراجع عنها تحت ضغط الجماهير، كما قيل. وعادت أم كلثوم لتغني له كلمات صالح جودت التي عكف على تلحينها الموسيقار رياض السنباطي خلال يوم واحد، لتخرج بها في اليوم التالي على الإذاعة المصرية كمظاهرة حاشدة تثني الرجل الذي قاد المصريين والعرب لأكبر هزيمة في تاريخهم الحديث عن التنحي:
"ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب".

يرى المؤرخ المصري خالد فهمي بأن خروج المصريين للشوارع، بعد إعلان عبد الناصر تنحيه في التاسع من حزيران، كان تعبيراً شعبياً واضحاً عن رفضهم للهزيمة، ولمطالبة من تسبب بها بمسؤولية استرداد الحقوق وإعادة الوضع إلى حالته الطبيعية. في حين يكتب الروائي اللبناني الياس خوري عن شخصية عبدالناصر التي تجمع بين "الابن" و"الأب": "هو أبو الأمة وابنها في آن معاً. الضابط الشاب الذي يجسد شخصية الابن المتمرد، والزعيم الذي كبرت به الزعامة فصار أبا للأمة. لو كان أبا فقط لسهلت عملية قتله. فمصير الآباء هو القتل الرمزي على أيدي أبنائهم، مثلما علَّمنا فرُويد. ولو كان ابنا فقط لسهل قتله الرمزي على طريقة إبراهيم الخليل، أي قتله عبر استبداله بالخروف كي يفهم معنى الطاعة"(2).


هوامش:
خالد فهمي، هزيمة يونيو المستمرة (١): الحشد التعبوي.
إلياس خوري، خمسون هزيمة، القدس العربي.

تعليقات

المشاركات الشائعة