بياضٌ يَتدرَّج

 

بياضٌ يَتدرَّج



بياض يتدرَّجُ نحو مغيب الشمس، على صفحة لم تزل فارغة حتى زفاف آخر الكواكب. بياضٌ تُبعث منه الألوان كلها وتنتهي إليه. بياض تنهض من روحه أطياف الأشكال الأولية لتصير حروفاً فكلمات، أجساداً وبنايات وهياكل أشباح أخرى.

أقف على طبقات سميكة من البياض الداكن، أجْلوها طبقة وراء أخرى عن غرقى بلا أسماء وبلا ملامح، غرقى يصعدون شوقاً لنسمة هواء حرة تتسع لاعتراف أخير. فكيف لي أن يكون أقل وحدة هنا، على هذه الصحراء الجليدية الشاغرة للموت والميلاد معاً، للمحو قبل الكتابة؟! كيف لي أن أفسر هذه الوحشة حين أدرك أن الكتابة ما هي إلا هذا "السواد والبياض الذي تتيه فيه كل هوية بدءاً بهوية الجسد الذي يكتب" على حد تعبير رولان بارت؟!

في مرسم كلية الهندسة قبل سنوات، كنت أعيش الرعب ذاته في مواجهة أوراق الرسم التي تكبر أوراق الكتابة بستة أضعاف تقريباً. كان الموضوع موضوع أشكال هندسية، حواراً بين المستقيم والدائرة، لا بين صوت الكلمة ومعناها. اختلفت لغة التعبير إذن، إلا أن التحدي الذي ظل قائماً هو كيفية إدارة الفراغ، الفراغ الذي يلتهم الصور والأفكار ولا يترك لي سوى الشتات والهذيان قبل أن أخط الخط الأول بمساعدة المسطرة. غير أن الأمر يصبح أكثر تعقيداً أثناء عملية الكتابة، فالأبعاد والحواف والزوايا تكمن كلها خفيةً في اللغة نفسها التي لا تحكمها المسطرة ولا تعالجها قوانين المثلثات، فلا وجود لأبعادٍ فيزيائية على أرضية الكتابة.

كم شرََّدتني حيرة اللغة جيئةً وذهابًا على جهات هذه الصفحة البيضاء، في ساعات التكوُّن المضنية، دون أن أخرج بجملة مفيدة تشفي غليل اللحظة المكثفة وتفتح أمامي جغرافيا النص! أعترف الآن بأن مواجهة تلك المساحات البيضاء هي أكثر المواقف رعبًا في علاقتي بالكتابة.

ربما كنتُ بحاجة للانتباه منذ وقت طويل إلى تلك الحيلة الخفيفة، القديمة والفعَّالة؛ إذ "لا تحتاج الكتابة سوى أن تبدأ..." كما وردني في رسالة على بريدي الإلكتروني من صديقة تشاطرني هواجس الكتابة.

أجل، كان على الأصابع العزلاء أن تبدأ عنوةً في اجتراح مجرى الكتابة دون أن تتوسل اللغة حتى تحين في مكان آخر، فالكتابة هنا هي نشاط عضليٌ أيضًا، لا تقتصر على شروط اللغة وألاعيبها التي توردنا البحر وتردّنا إلى اليابسة أكثر عطشًا. بلى، لقد ذهب الشاعر الأمريكي راسل إدسن إلى أبعد من ذلك حين قال: "يوشك الشعر أن يكون فنًا لا لغويًا".

غير أن السر كله يكمن في ذلك البياض المُنقَّح من كل أثر بشري. إنه مهد ولادة العبقرية، وحي البداية الناصعة لشيء ما يتكون في غيب الكاتب. إنه مستنقع الخيال الخصب، حيث تغوي اللغة وتغري ببَدء جديد ينفض عن الكلمة تراثها وما تراكم من معانيها الاصطلاحية قبل ولادة جديدة للمعنى، من نبر الكلمة وشكلها ومن تموضعها على السطر، ذاهبة بإشعاع جذرها المعجمي إلى نهايات الكون، في علاقات جديدة ومفتوحة مع الأشياء والحواس، مع الخفي والمرئي. هكذا يكون عمل الشعر في مَعدِن اللغة تحريراً لذاكرتها على هذا البياض، لا توكيداً وطمأنةً لاستقرارها المهدد بالجمود والاغتراب والموت. ولطالما آمنت في هذا السياق بخلاصة جان بول سارتر العبقرية، تلك التي تصف الشاعر الحقيقي بأنه خادم الكلمات لا مستخدمها، أي أنه المشغول أبداً بتطوير أبعاد الكلمة وصقل حوافها، وليس ذاك المنشغل بتطويع معانيها القديمة.

لعلني الآن واحد منكم حين أسمي الكائنات بأسمائها، لكنني الغريب حين أعنيها. أتدبر معاني الكلمات جيداً في الصباح، لأنساها حين تُكمل الشمس حسرتها في كبد السماء، ذاهباً مع شبهة الظلال في الجدران لأعيد تعريف نفسي لنفسي بكلمات بدائية، بكلمات لا تاريخ لها ولا أنساب، دون أن أنجو من الوقوع في التشابه مرةً أخرى، قبل أن أعيد التجربة على رقعة جديدة من البياض، لعلني بهذا التمرين اليائس أنقِّحُ لغتي من الأخطاء القديمة العالقة على دفتر مدرسي لطفل ظل لفترة طويلة يهرب من كتابة الكلمات بغير البنسل، خشية أن يطبع الحبر حماقاته فتبقى لعمر أطول على الورق.

ولكن لأن الأخطاء ما هي إلا جزء حيوي وضروري في اللغة، كما هي في الحياة، فستأتي الحماقات في وقت لاحق لا محالة، مطبوعة بحبر أزرق يزداد غموضا كلما جففه الزمن، أقف عليه لأقرأه كرسم دارس تتبخر منه الأشباح في هذا الفضاء المهجور، حيث علي أن أبدأ من جديد لأُعمِّرَ غرفاً سريةً لي ولقراء صامتين في الظلام، قراء يسترقون السمع ويتلصصون بأعين جارحة على ليلي المحصن بالكواكب الجاهلية.



تعليقات

المشاركات الشائعة