كيسنجر: المنسجمُ موسيقياً مع التاريخ!

كيسنجر: المنسجمُ موسيقياً مع التاريخ!







هل يمكننا أن نتوقع في الأيام القريبة إنجاز مسلسل تلفزيوني مثير ومشوق يتناول حياة السيد هنري كيسنجر كوزيرِ خارجية أسبق لأمريكا ومستشارا لأمنها القومي في عهد ريتشارد نيكسون وخلفه جيرالد فورد، إضافة إلى دوره المتواصل كمنظرٍ استراتيجي؟ لا أعتقد أن مشروعاً درامياً كهذا يبدو متخيلاً حتى الآن، وذلك لسبب قدري قبل كل شيء يتعلق بالآجال التي هي بيد الخالق وحده، وأعني الموتَ الضروري الذي تكتمل به المسيرة. إضافة إلى كونه سبباً بشرياً من ناحية أخرى، مرهوناً بحيوية الرجل المستمرة حتى اليوم كمؤلف ومحاضر؛ فالعجوز الذي احتفل منذ أيام (في 27 مايو الماضي) بعيد ميلاده المائة لم يتقاعد من الحياة بعد ولا من السياسة، إذ ما زال لديه كما يبدو الكثير ليقوله، وما زال الصحفيون والمحللون الاستراتيجيون وطلاب العلوم السياسية ينتظرون سماع آرائه حول أزمات العالم اليومية، حتى فيما يتعلق بقضية تكنولوجية كالذكاء الاصطناعي. ما يعني أن هذا العجوز، الواقف بارتعاش الشيخوخة والهرم على حافة القبر، لم يعثر حتى اللحظة على الصورة النهائية لنهايته، أما الدراما، عودتنا الدراما، فتبقى بحاجة ماسة إلى نهاية جلية يرسمها البطل نفسُه، أو فهي نهاية متروكة للسياق الحتمي للزمن.


وبما أن التاريخ واحدٌ من أخصب حقول الدراما فإن كسينجر كان هناك دائماً، حاضراً في الخلفية التاريخية للأحداث والصراعات التي رسمت خريطة القرن العشرين، مفسراً كل التحولات بواقعيته التي لا يمكنها أن تستوعب الواقع إلا كمحصلة مادية للقوة الأمريكية، هو الذي يرى في كتابه "النظام العالمي" أن أكثر ما يُجهد أمريكا هو الحفاظ على التوازن في العلاقة بين مبادئها وقوتها. 


قبل ثلاث سنوات، في ذكرى ميلاد كسينجر السابعة والتسعين، كتب توماس ميني على "ذي نيويوركر" عن أسطورة كسينجر كمهندس للدبلوماسية الأمريكية، معرجاً على شبكة ارتباطاته الشخصية التي ساهمت في صياغة رؤيته للعالم وللسياسة كما رسمت رؤيته للتاريخ قبل كل شيء. ومن بين أولئك الذين عرفوا كسينجر باكراً، وفقاً لتوماس ميني، كان الجندي الألماني الأمريكي فريتز كريمر، وذلك عندما تقاطعت خطاه بخطى الجرماني الآخر خلال فترة تجنيدهما إبان الحرب العالمية الثانية.


 كان بوسع فريتز كريمر، الذي يكبر كسينجر بخمسة عشر عاماً، أن يلعب دور الأستاذ المرشد لكيسنجر في مطلع عهد الأخير، وربما كان هو الأستاذ الأول لذلك المجند الصغير الذي سيقوده طموحه السياسي المتدرج إلى جامعة هارفارد كطالب للعلوم السياسية، وذلك قبل أن ينجز رسالته الأكاديمية بعنوان "معنى التاريخ: تأملات في شبينغلر وتوينبي وكانت". لكن التذكير بفريتز كريمر في هذا السياق يأتي ضرورياً حين توجزُه مقولتُه التي نغامت مسيرة كيسنجر مع التاريخ طيلة سنوات عمله في البيت الأبيض، وبدت كنبوءة غائرة العمق: "إنه ينسجم موسيقياً مع التاريخ"!  


أجل، كان كيسنجر منسجماً مع التاريخ إلى الحد الذي لا يمكن فيه محاكمة تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين، إبان اشتعال الحرب الباردة، دون أن يكون كيسنجر، شخصياً، واحداً من أبرز المتهمين في هذه المحاكمة المتروكة لحبر المؤرخين، وذلك قبل أن تبرد المشاعر تجاه انخراطه المباشر في العديد من المؤامرات الدولية والمكائد السياسية التي يبررها عادة بقلقه من اشتراكية "العالم الثالث" في فيتنام وكمبوديا وتشيلي وبنجلاديش… وأينما بلغت اليد الطولى للولايات المتحدة. فضلاً عن ضلوعه الخفي في حملات إبادة جماعية في أقاليم عدة من العالم، كتلك التي شهدتها تيمور الشرقية منذ منتصف السبعينيات حتى مطلع القرن الجديد.


كان الحظ حاضراً في مسيرة كيسنجر القادم من المختبرات الأكاديمية في هارفارد إلى ميدان المناورات السياسية. آلفه التاريخ بشخصية سيتضح لاحقاً أنها كانت أقل انسجاماً مع شروط المرحلة المتفجرة، وكان ذلك الشخص هو السيد الأبيض السابع والثلاثون للبيت الأبيض، ريتشارد نيكسون، الذي قال عنه كيسنجر مرةً إنه بحاجة إلى عبقرية أدبية كشكسبير حتى تفهمه. غير أن طبيعة العلاقة بين الرجلين أعادت للواجهة ثنائية الملك والوزير المتكررة في الأدبيات السياسية.


 ولكن، وفي انقلاب لقواعد الشطرنج التقليدية، كان الملك هو من سقط عن الرقعة في وحل فضيحة ووترغيت الشهيرة، ليبقى وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي محافظاً على كامل حركته في المشهد بعد أن تمكن بأعجوبة من الإفلات من محكمة التاريخ رغم الشرخ الحاد الذي أحدثته مهلكة فيتنام الشمالية في المجتمع الأمريكي، لا سيما لدى شريحة عريضة من الطلاب والنخب الأكاديمية التي كان بعض رموزها من رفاق كيسنجر في مرحلة سابقة. ليواصل هذا الرجل/ القرن انسجامه الموسيقي مع التاريخ حتى اليوم!


تعليقات

المشاركات الشائعة