سالم الرحبي: الموسيقى هي المضيف البهي للكلمات الفقيرة...

 



حوار حول الموسيقى…

مع الشاعر سالم الرحبي

حاورته جمانة العوفي، طالبة إعلام من كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس.



ما هي أول ذكرياتك المرتبطة بالموسيقى؟

سيبدو السؤال محرجاً إذا ما اعترفتُ الآن بأن المُحرَّم الدينيَّ كان أول ما ارتبطت به الموسيقى في ذاكرتي! هل حقاً ما أزال أتذكر، وأنا صغير، ذلك الشعور الآثم الذي ظلت تكويني به الأنغام المُستَرقة من أشرطة الكاسيت؟ لا أجد بُداً من الوقوف على تلك البداية المرتابة إذا ما حاولت غداً الكتابة عن الإشارات الأولى للموسيقى في طفولتي. ولكن على حد علمي المتذبذب بذلك الماضي الذي أقف على مسافة محايدة منه الآن، فقد كان الإيقاع الصاعد من الشعر العربي القديم أول ما لفتني إلى سحر الموسيقى. لقد تنفستُ الموسيقى في الشعر، وربما كان هذا هو الجانب المشرق لذلك المنع المُبرر بحجة دينية. ولعل هذا ما يفسر اليوم إصراري على مقاربتي الإيقاعية التي أتبنَّاها منذ سنوات في كتابة القصيدة.


 هل تعتقد بأن الموسيقى لها دور في تشكيل الهوية الثقافية؟

الموسيقى هي الصوت الكوني الصقيل الذي تحرره الآلة ليفصح عن غامضِ الكهرمانِ الإنسانيِّ فينا. ترتقي في سُلَّمِها من الهمس إلى ذروة الغناء، ثم نلتقطها كشعوب في نشيد جماعي، وحينها ترتفع الموسيقى كحالة وطنية أو قومية. فعلاقة الموسيقى بهوية الفرد والجماعة علاقة تبادلية بلا شروط؛ فهي تشكل الهوية في حين أن الهوية تشكلها وتمدها بالخصوصية اللازمة لتعبر عن فرادة الثقافة التي ينتمي إليها الكائن في زمانه ومكانه. 


 هل الموسيقى تؤثر على مزاجك ومشاعرك؟

يهمني كثيراً أن أسعى لاختبار حواسي البدائية لأقصى درجة ممكنة، أن أكتشف مواهبها وإمكاناتها في خضم لحظة معينة نزقة، وهذا ما يمنحني سراً من أسرار المتعة في هذه الحياة. وبناءً على تجربتي المستمرة في التلقي البصري والسمعي لكل ما يضيء أو يرن من حولي، فناً وتشوهاً وضوضاء؛ فقد توصلتُ، بلا يقين مطلق أو دليل علمي أكيد، إلى أن السمع هو أرهف حواسي على الإطلاق؛ ولذا فإن الصدى الثقيل للمطارق الحديد وهي تهبط على الحديد في بناية مجاورة قيد الإنشاء، والهواء الساخن الذي تمزقه دراجة نارية في الشارع خلف نافذتي، إضافة إلى لغط الكلام اليومي والتداخل العشوائي لأصوات الأشياء والناس في بعضها، كل هذا أو أكثر يخلف عندي مع نهاية اليوم انسداداً نفسياً في استقبال المزيد من الأصوات. وهنا يكون تَدخُّل الموسيقى أمراً بالغ الحساسية؛ فإذا عرَّضتُ سمعي في هذه اللحظة لموسيقى رديئة فإن الأثر النفسي سيتفاقم للأسوأ؛ يغلق علي مخيلتي ويتركني رهن حالة من الجمود والإستياء لا أشفى منها إلا بالنوم غالباً. أما إذا تقاطعت هذه اللحظة، صدفة أو عن قصد، مع الموسيقى التي تلامس استعدادات الذاكرة الجمالية فهذا ما يفضي بي تلقائيا لاستعادة صفاء الهواء الحُـر من حولي، وهو ما يجعل من اللحظة نفسها موعداً لنشوة قصيرة لا تتكر، أو زمناً يتمدد باسترخاء فيقودني للكتابة مثلاً، أو للمشي الطويل بلا هدى. 


بما أنك تطرقت للكتابة، هل تحضر الموسيقى كجزء من طقوسك في الكتابة؟

اعتدتُ على تهيئة مقطوعة موسيقية كطقس ثابت لاستهلال الكتابة واستجداء الإلهام. ولكن بمجرد أن أشتبك مع السياق وأبدأ في انهماك تام برسم الكلمات على البياض فإنني أطفئ الخلفية الموسيقية تفادياً لأي انعطافة كارثية في سريانها الثابت والرتيب قد توقظني من المشي في نومي آناء الكتابة.

كم هي مخيفة حقاً هذه الخلاصة التي تشي بأن مزاجي يظل دائماً موقوتاً ومؤقتا ً تحت تأثير الموجات الصوتية التي تتدفق من المحيط نحو أُذُنيَّ، فتشكل انتباهتي ومشاعري اللحظية إلى هذا الحد! 


 ما هي الموسيقى التي تمثل لك ثقافتك ومنشأك الاجتماعي؟

فيما يخص ذائقتي الموسيقية فأنا في غاية الامتنان للسينما. كان للبصريِّ أثره العميق في اكتشافي للمساحات الشاسعة من الموسيقى وهي تستضيف الضوء والظل والحركة في المشهد السينمائي؛ تُصعِّد من شراهة المخيلة في إكمال الفراغات التي يتركها المشهد للمتلقي دون أن تجري كمقطورة مستقلة عن التفاعلات البصرية التي تعكسها الكاميرا.

قبل أكثر من عقد ونصف، أي في السنوات الأخيرة من العصر الذهبي للتلفزيون، شاهدتُ في أمسية عائلية عرضاً تلفزيونياً لأشهر أعمال المخرج السوري الأمريكي الراحل مصطفى العقاد، فِلم "الرسالة" الذي ظل يُعرض باستمرار تزامنا مع ذكرى المولد النبوي. رغم أهمية ذلك العمل في ذاكرتي إلا أنني لم أكرر تجربة مشاهدته بعد تلك المرة، لكن موسيقى موريس جار الصحراوية ظلَّـلَتْ تلك التجربة المنقطعة بسحرها الملحمي الفريد، وما زلت أستأنس بسماعها اليوم دون ملل. تركني ذلك الحب للموسيقى العابرة في الأفلام مشغوفاً منذ سنوات بتتبع الموسيقى التصويرية للأعمال السينمائية الأثيرة لدي، الهواية الجديدة التي قادتني لاكتشاف عمر خورشيد (من ينسى موسيقاه في "الرصاصة لا تزال في جببي"! )وعمر خيرت وعمار الشريعي الذين وثَّقوا علاقتي بالسينما المصرية. 


هذا بخصوص الموسيقى الصافية المجردة من أي تعبير لغوي، فماذا عن الأغنية؟

بالنسبة للأغاني فالموسيقى هي المضيف البهي للكلمات الفقيرة، لا سيما إن كان الشعر الذي تنهض به ومنه تافهاً، كما هو حال السواد الأعظم من الزخم الغنائي الذي تضخُّه شركات الإنتاج العربية اليوم. مع ذلك؛ فإن لواعج الشجن المحلي الدفين تفرض عليَّ انحيازاً للأغنية التي خرجت من شبه الجزيرة العربية واستمرت تنويعاتها الحديثة حتى التسعينيات قبل أن يجرفها تيار السوق. عربياً، فإنني من المعجبين بتجربة الرحابنة في لبنان. أما السيدة فيروز، الشخص والأغنية، فهي أيقونتي المفضلة للأبد كلما فتَّشتُ عن هويتي العربية في أغنية.


 هل تعتقد أن الموسيقى يمكن أن تتغير مع مرور الزمن بتغير الموضة؟

الزمن هو المختبر الحقيقي لأي عمل فني. أما الخلود الفني الذي يؤرق أي مبدع طموح فلا يعني مطلقاً أن موسيقى أو اللوحة أو القصيدة ستقهر الزمن. يمكن أن نفهم الخلود على أنه أعلى مراتب الإبداع البشري المنتبه لحركة الزمن والواعي لشروطه؛ بحيث يصبح الزمن عنصراً حيوياً في التجربة الروحية للمبدع قبل كل شيء، ما يؤهله بالذكاء والخبرة، وبقدر معقول من الحظ أحياناً، ليطوِّع الزمن لصالحه. أما الموضة فهي ليست مسألة سلبية دائماً، سواء في الفن أو في الفكر والمعتقدات، فكثير من التيارات الفكرية التي صاغت معالم الفكر في عالمنا المعاصر ظهرت وتلاشت كموضة. أما في الموسيقى تحديداً والفن عموماً، فالموضة عَرَضٌ ضروري لإنعاش حياتنا الفنية والثقافية من مأزق الرتابة وأزمة الملل. 


ما هو دور الموسيقى في تشكيل المواقف السياسية والاجتماعية؟

دعيني أُلْمح من خلال سؤالك إلى الإرث السياسي للموسيقى التي شكلت وعينا الوطني في عُمان طوال نصف قرن كامل. وكما لو أن الأمر سر، هل تصدقين بأنني أتردد بين الفترة والأخرى على سماع أوبريت "صوت النهضة" الذي تحدَّثَ عن مقدم القائد الواعد ثم تفرع لينشد عن التلميذ والمرأة والفلاح والعمال وتراث الأجداد في لوحات مختلفة؟ أجدني أمام حقبة كاملة من تاريخنا الوطني والسياسي في نشيد ملحمي أضحى اليوم من بواعث "النوستالجيا العمانية"، لكنه كان في حينه أكثر من مجرد عمل موسيقي وطني. فضلاً عن طرازه الفني الرفيع لحناً وكلمة وآداءً إذا ما قورن بما يُنجز اليوم تحت مُسمى "الفن الوطني"، فقد كان عملاً فنياً نابعاً عن ضرورة سياسية. الشعور ذاته الذي يراودني وأنا أتردد على سماع أغنية عام الشبيبة العماني (1983) والتي لا يعرف الكثير من العمانيين أن مُلحنها هو الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب. إنني أتحدث عن موسيقى جاءت لتموسِق الخطاب السياسي للدولة الجديدة في مرحلة حاسمة. أما اليوم فأعتقد أننا قد تأخرنا كثيراً في تقديم موسيقى مستقلة تحمل المضمون السياسي والاجتماعي للأفراد بعيداً عن وصاية الدولة. وعندما نتكلم عن موسيقى تشكل الموقف السياسي فنحن لا نتحدث بالضرورة عن ذلك النوع من الفن الذي يقدم نفسه كمعارضة سياسية صارخة، إنما نشير إلى الفن الذي يقف من مجمل الأحداث والتغيرات العامة موقفاً تعبيرياً، لا أكثر. 



تعليقات

المشاركات الشائعة