"أوسلو" الذي يحتضر ولا يموت


 بحلول 13 من سبتمبر الماضي يكون اتفاق أوسلو على إكمال ثلاثة عقود عجاف منذ التوقيع على مبادئه بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، برعاية وحفاوة أمريكية كان مسرحها حديقة البيت الأبيض. لكن "أوسلو" الذي وصفه فيصل الحسيني في إحدى المرات قائلاً بأنه "وليدنا الذي ولد مشوهاً وغير مكتمل النمو" والذي بات لزاماً علينا -أمام العالم والتاريخ- أن نعترف به، بل ونرعاه، سرعان ما بدأ يحتضر منذ دخوله حيز التنفيذ مع تحول القيادة الفلسطينية من تونس المنفى للوقوف على قدم واحدة فوق أشبار ممزقة من تراب فلسطين التاريخية، حيث يرتفع العلم الوطنيُّ الفلسطينيُّ فوق "المقاطعة".

اليوم، وبعد عقود ثلاثة على ذلك الاتفاق الذي غيَّر الكثير من حسابات الصراع العربي الإسرائيلي، نجد أن ذلك "الوليد المشوه" ما زال وليداً لم يكبر على الصورة التي بيَّتها الإسرائيليون له منذ بداية المفاوضات السرية، مشوهاً لا يحيا إلا احتضاراً مستمراً في مختلف نواحي الحياة الفلسطينية.

إن قراءة المعالم الدموية للدروب التي أفضت بالثورة الفلسطينية إلى أوسلو قد تساعد على استيعاب تلك الكبوة، دون أن تجعل من الماضي شفيعاً للمستقبل، المستقبل الذي خرج إلى النور عبر قناة سرية وفرتها وزارة الخارجية النرويجية، وذهبت إليه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بحثاً عن "الدولة"، تحت شعارات "المرحلية" و"التكتيك" و"الواقعية السياسية". 

كان أبو عمار، المصاب في أبعد قطرة من دمه بهاجس السلطة، مسكوناً في الوقت نفسه بقلَقه من احتمالية بروز قيادة جديدة في الداخل، خاصة بعد تصدر الإسلاميين للانتفاضة، ممثلين في حركتي حماس والجهاد الإسلامي، اللتين واكب صعودهما انتصارَ الثورة الإسلامية في إيران 1979. سنوات هائجة من عمر النضال الفلسطيني في المنافي، لم تسترح فيها الفصائل الفلسطينية من داء الانقسامات وتحويل الإثنين إلى أربعة والأربعة إلى ثمانية… كثُر الطعن في خط التسوية الذي بات نهجاً واضحاً في سلوك القيادة الفلسطينية منذ إطلاقها برنامج النقاط العشر في أعقاب حرب تشرين 1973، إلى أن جاء إعلان الاستقلال عام 1988، فلقي  من الترحيب العاطفيّ ما يعكس عطش الفلسطيني إلى هوية سياسية واضحة ومعلنة يعترف بها العالم. كانت دموع جورج حبش تترقرق وهو يضرب بيسراه على ذراعه اليمنى المشلولة حتى يشارك في غمرة التصفيق لحظة تلاوة وثيقة الاستقلال التي شارك في كتابتها محمود درويش وإدوارد سعيد وألقاها "الختيار" الراحل.  إلا أن "الدولة المستقلة" وجدت نفسها في الهواء، واتضح أنها لم تكن سوى غطاء لتبني برنامج سياسي جديد يعترف بقراري مجلس الأمن 242 و338، اللَّذين ظلت المنظمة تحاربهما منذ إنشائها. 

في حين كان أوسلو بالنسبة لإسحاق رابين وفريقه في حزب العمل الإسرائيلي حجراً لأكثر من عصفور: التخفف من عبء المسؤولية الأمنية والإدارية للمناطق المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بإنشاء "سلطة" وظيفية للفلسطينيين، لا تمتلك من أدوات السيادة والحياة إلا بالقدر الذي يعينها على البقاء والاستمرار في ظل التنسيق مع دولة الاحتلال والتبعية المباشرة لها، وهي مسألة أدركت إسرائيل ضرورتها بعد تجربتها المريرة مع المقاومة الشعبية الفلسطينية خلال سنوات الانتفاضة الأولى. كما وجد الإسرائيليون في أوسلو فاتحة لسن سنة التطبيع مع بقية البلدان العربية (ولكن من باب أصحاب القضية أنفسهم هذه المرة!) ضمن سياسة "التدرج خطوة خطوة" التي سنها عراب كامب ديفيد هنري كيسنجر، بعد نجاحه في جر مصر الساداتية إلى مستنقع السلام. ولأن الحكومة الإسرائيلية أقل صبراً على تحمل ضغط المجتمع الدولي الناجم عن تعطيلها المستمر لمحادثات السلام في واشنطن ومدريد، خلال الفترة الرئاسية لجورج بوش الأب، فقد كان هذا الاتفاق مسرحَة لصورة إسرائيل الودودة والباحثة عن السلام. وكان الإنجاز الإعلامي لإسرائيل باهراً إذ ساد اعتقاد لدى الرأي العالمي أن إسرائيل أبدت الكثير من المرونة في إنهاء حقبة دموية طويلة بين العرب واليهود، وأن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة تسوية نهائية. 

يُغفل الكثير من الباحثين في مجريات المفاوضات التي مهدت لأوسلو الدور الخطير الذي لعبته دولة صغيرة كالنرويج. والتي كانت صلاتها الوثيقة بالإدارة الأمريكية وحزب العمل الإسرائيلي منزلقاً حاسماً في ولوج منظمة التحرير إلى أوسلو. جاء في بحث بعنوان "دور النرويج في مفاوضات سلام الشرق الأوسط: ما بين دولة قوية ومحارب ضعيف" لهيلد هنريكسن فاغيه، من معهد السلام الدولي في أوسلو، أن ﻋﺮﻓﺎت "ﻫﻮ أول ﻣﻦ اﻗﺘﺮح اﻟﻨﺮوﻳﺞ ﰲ ﺳﻨﺔ 1979 ﻛﻘﻨﺎة ﻟﻠﻤﻔﺎوﺿﺎت. ﻛﻤﺎ ﻓﺎﰌ ﻋﺮﻓﺎت اﳊﻜﻮﻣﺔ اﻟﻨﺮوﻳﺠﻴﺔ ﻋﺪة ﻣﺮات خلال اﻟﺜﻤﺎﻧﻴﻨﻴﺎت. وﰲ ﺳﻨﺔ 1989 ﻃﻠﺐ ﻣﻦ وزﻳﺮ اﳋﺎرﺟﻴﺔ اﻟﻨﺮوﻳﺠﻲ ﲢﺪﻳﺪاً ﻧﻘﻞ رﺳﺎﻟﺔ إﱃ وزﻳﺮ ﺧﺎرﺟﻴﺔ إﺳﺮاﺋﻴﻞ ﻳﻘﺘﺮح ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨﺮوﻳﺞ ﻣﻜﺎﻧﺎً ﻟﻠﻤﻔﺎوﺿﺎت المباشرة".

بالطبع، لم يكن من إسرائيل سوى أن تجاهلت عرض الخارجية النرويجية، ربما لأن عرفات كان يلوح بورقة الانتفاضة، ولأن الحكومة إسرائيلية كانت بانتظار ضمان الظروف الدولية بانقشاع دخان الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة لصالح المعسكر الرأسمالي. وهكذا فإن سقوط الإتحاد السوفيتي، وانتهاء حرب الخليج في مطلع التسعينيات بعزلة منظمة التحرير الفلسطينية وقطع الدعم المالي عنها من قبل دول الخليج نتيجة لموقفها غير المدين لغزو الكويت، إضافة لخمود الانتفاضة، كل ذلك وفَّر مناخاً سانحاً لإسرائيل لتحقيق إنجازها التاريخي بتسوية الصراع مع الفلسطينيين. 

خلال السنوات الأولى - ما بعد أوسلو- كانت محاسبة عملية السلام فلسطينياً تنطلق من فشل هدفها الأساس وهو قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي تنسحب منها إسرائيل بموجب الاتفاق. غير أن السنوات اللاحقة أثبتت أن شيئاً من ذلك لن يحدث، بل على العكس، فقد زادت عزلة المنظمة والختيار، الذي دفع حياته ثمناً لمحاولته المتأخرة في الثورة على أوسلو بقيادته للانتفاضة الثانية.

لم يذق الشعب الفلسطيني سلاماً حرياً بحياة عادية، ولم يعرف الاقتصاد الفلسطيني النمو الموهوم الذي سيحول الضفة الغربية وقطاع غزة إلى "هونغ كونغ الشرق الأوسط" كما روَّج المتحمسون للاتفاق... والأهم من ذلك كله أن حُلم "الدولة" تحول إلى كابوس، وتحولت "فتح" من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه "بلدية صغيرة" على حد تعبير إدوارد سعيد.

أما اليوم، فمن الواضح أن أوسلو ما يزال يواصل احتضاره، رغم التصريحات الانفعالية المتكررة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بإيقاف العمل بالاتفاق من جانب الطرف الفلسطيني. في حين يثبت أوسلو يوماً بعد يوم أنه قد تحول من مجرد اتفاق سياسي إلى نهج دفين في خلايا السلطة الفلسطينية، وأنه كان جريمة اغتيال للحركة الوطنية الفلسطينية. 

وبالنسبة لي، ولكثير من الفلسطينيين والعرب، ما تزال يمنى الزعيم الفلسطيني الراحل عالقة في الهواء الساخن بينه ورابين… وما زال "أوسلو" يحتضر.

تعليقات

المشاركات الشائعة