السيَّاب: المطرُ وطينُ الجسد

 

ظل بدر شاكر السيَّاب خلال سنواته الأخيرة يبحث عن منفى مشمس في المدن الجديدة، هارباً من مطره القديم الذي أقفل عليه السماء وفرش دروبه الضيقة بالطين، قبل أن يُغرق حياته القصيرة في شبر من مياه الخليج. كانت قدماه النحيلتان غائرتين في وحل المأساة إلى حد يتعذَّر معه الخلاص سوى بالموت وحده. فذهب وحيداً ضامراً إلى شكل نهايته المتدرجة، تلك النهاية التي اختلطت فيها غلبة الدَّين وقهر الرجال بظلم الحب وعجز الجسد الخفيف وهو يتلاشى ببطء على سرير بالمستشفى الأميري في الكويت، خلال شتاء ١٩٦٤.


كان يحتضر في شتائه الأخير تحت مزاريب الأنشودة التي شيعته حياً وميتاً، إلا أن الجسد المُشبع بالأساطير ظلَّ أكثر جفافاً وجفاءً في حضرة الماء، طيناً يُطبخ على سَفُّود التجربة:


"يقصُّ جسمي الذليلَ مبضعٌ

كأنه يقص طينةً بدون ماءْ".


هكذا يُسلم طينه المحروق لمبضع الموت في وصيته الشعرية الشاهدة على رأي الشاعر العراقي فوزي كريم إذ يقول إن الموت في قصيدة السيَّاب كان "فعلاً" مضارعاً، لا مجرد اسم أو كلمة أو موضوع. ولعلنا نستطيع أن نتصوَّر هويته الشعرية أكثر عندما نقرؤها كامتداد لهويته الجسدية الهشة وهو في مشيته العجلى متأبطاً ديوان ت. س. إليوت بطبعته الإنجليزية. فلطالما كان في نحوله وضاءلته مُعبراً عن حساسية عميقة تطغى على سطح اللغة تحت الضغط النفسي العالي، لتُنبي عن هشاشة نفسية مزَّقتها تجربته الحزبية بدسائس الأعداء والأصدقاء معاً، فلم يعد منها السيَّاب إلى ما تبقى من الحياة والشعر إلا بضغينة طافحة وشك قهري في العيون الغريبة، في ظل جو من المكائد السياسية وتشوه الحياة الثقافية بالعراق. وهذه ملاحظة يعود فوزي كريم ليؤكدها بقوله إن "انتماءات السيَّاب السياسية كانت ضرباً من الدفاع عن النفس، ولم تكن تنطوي على إيمان حقيقي".


في المقهى، في مكتب الحزب الشيوعي أو في دار المعلمين العالية، كان السيَّاب يعاني من ارتدادات نفسية عنيفة تصيب كبرياءه المكلوم فتطلق العنان للعنجهية، ولشيء آخر يصفه الأستاذ الكبير إحسان عباس بكلمة ذهبتُ للبحث عن معناها فورًا في لسان العرب، ألا وهي "التَّنفج": أي الادعاء! خاصة عندما يدور الحديث عن ثقافته وعلاقته بالشعر الإنجليزي.


كثيراً ما تعرَّض السيَّاب لما يمكن وصفه بجناية القيمة الأكاديمية على فنية الفنان، فمنذ رحيله إلى اليوم، ما زال يقع على السيَّاب ظلم مستمر يتفاقم إلى حد ابتذال الظلم بتكراره المسفّ في سواد عظيم من الكتابات النقدية المنشورة على المجلات والجرائد أو في الدراسات الخارجة من كليات الآداب في الجامعات العربية، تلك التي تسعى لتأكيد قولين جاهزين هما أول شيء قد يعرفه تقريباً أي طالب مدرسي في المرحلة الثانوية: الأهمية التأسيسية التي يتبوؤها شاعر "أنشودة المطر" في سلَّم تطور القصيدة العربية بوصفه أول محرريها من عروض الخليل بن أحمد في صورته العمودية، أولاً، وأسبقيته في توظيف الأسطورة وتطويعها شعرياً في الشعر العربي، ثانياً. وكأن آثار السيَّاب الشعرية تنتهي خارج حدود هذين القولين المختزلين في قيمة الريادة والتأسيس.


على صعيد شخصي، يمكنني القول إنني قد عرفت بدر شاكر السياب باكراً في لحظة مشوهة من عمري كقارئ، إذ شكوتُ مراراً من إهمال المعلمين وافتقاري إلى التوجيه اللغوي والتربية الأدبية الكريمة، الأمر الذي جعلني أَنشد باجتهاد فرديّ خالص عن ذائقة فنية تواكب ضغط الإرهاصات الباكرة من أجل بناء فضاء شخصي للتعبير الحر، يتداخل فيه همس الداخل مع ضجيج الخارج بلا تماس كهربائي، وذلك قبل أن أحاول شعراً أجهر به على منبر الإذاعة المدرسية، بصرف النظر عن كون ذلك "الشعر" أبعد ما يكون عن الشعر الذي أؤمن به اليوم، بل هو أقرب إلى لغة بدائية لطفل يحلم (أتحدث هنا عن فترة تتأرجح بين العاشرة والثالثة عشر من عمري). ما أتذكره جيداً أن "أنشودة المطر" جاءت في توقيت حرج من تلك النشأة المضطربة في تكوينها الثقافي، حيث ساهمت تلك القصيدة بدورها في خلخلة ثوابت شعرية سهرتُ طفولتي في دراستها وفهم أنماطها المرتكزة على قوافٍ معلقة كالكواكب وبحور خليلية متفاوتة في المد والجزر. وبعد صدمة القراءة الأولى كان عليَّ أن أهجر ديوان السيَّاب إلى حين، بحثاً عن تجارب شعرية معاصرة أقلَّ رمزاً وغموضاً، وأكثر انسجاماً مع مستوى وعيي الشعري الأول. هكذا قرأت السيَّاب على دفعات، من مرحلة إلى أخرى. وكم أتمنى لو أعود لقراءة أنشودة المطر مع التلاميذ في حصة اللغة العربية لأتعرَّف على شاعرها من جديد... تلك الأنشودة التي ما زالت تُلقَّن للتلاميذ كعينة اختبار لدراسة مفهوم "الشعر الحر"، لا أكثر!


تعليقات

المشاركات الشائعة