شيمبورسكا: الشعر وفضيلة الصمت

 تكتب شيمبورسكا تحت جنح الليل، وتنام ريثما يجف حبرها على الورق. وفي الصباح تستيقظ باكرة لتقرأ ما اقترفته من الكلمات الليليَّة بنظَّارة صائغ الساعات، فتنقح أوراقها من كل شاردة لا تحتمل جولة واحدة من دوران الأرض حول نفسها. شاعرة في المقهى، شاعرة في الحديقة... وشاعرة على أريكة القراءة. كل مكان على الأرض جاهز ليصير مختبرها الشعري الأليف حيث تعيد توزيع العناصر المرئية في القصيدة بقلبها الضئيل المعلق بفتيل ضوء يتسرب من صدع في جدار الكون. تتذكر جيداً تضاريس الظلام، وهي تُطبق عينيها في وجه النهار، كما تتذكر تضاريس يد غريبة حالما تنسلُّ من يدها بعد مصافحة عابرة. هكذا تذهب شيمبورسكا إلى الشعر عبر غابة من الظلال والأضواء، معتمدةً على البداهة المفرطة وذكاء الحواس وهي تقتفي أثر شيء زائل في متحف الوجود.


منذ أن تفتُّح وعيها الشعري الأول في أربعينيات القرن الماضي كطالبة جامعية (هجرت مقاعد اللغة البولندية وآدابها لدراسة علم الاجتماع) حتى فوزها المفاجئ بجائزة نوبل للآداب في تسعينيات القرن الماضي وهي لم تيأس من نظم عالمها المنثور في مصفوفات خفية تجعل من الشعر نظاماً عفوياً بلا زوائد أو عشوائيات. وعندما يتوغَّل الإحباط تحت جلدها تلجأ عادة لدعابتها اللغوية؛ فتقترح على القارئ أساليبها الساخرة من أجل حوار جاد مع الحقيقة. وأما حين يفشل الكلام فلا تجد طريقاً إلا إلى بيتها النائي حيث تعكف وحيدة على تربية الصمت الطويل الذي يجعل من أساها السري جوهرة يتيمة:

"أحاول تعلم الصمت

بجميع اللغات،

بعد اختبار مكثف ودقيق

للسماء المرصعة بالنجوم".


ألذا نجدها متقشفة في الكم، مقتصدة في الإنتاج الشعري إلى هذا الحد؟ إن الكتابة لدى شيمبورسكا نداء حاجة لا يمكن إخراسها إلا بشفرات التعبير الشعري وحده، شهوة كامنة لا يمكن تحريرها إلا بتلك القوة الخفيفة التي تهبط بها الكلمات على قشور الصمت فتحول الصرخة المكتومة إلى وميض، كما إن تخصيب اللحظة المارقة وتكثيف البقع الصغرى في اللوحة الفنية هما من أهم سماتها الشعرية التي تتجلى في قصائدها المحدودة حجماً بحدود الصفحة، فهي على خصام دائم مع الشعراء الذين يكثرون من استخدام الكلمات دون أن يفرجوا عن مساحات حرة من الصمت الجمالي في النص، معترفة في نفس الوقت بأن الشعر فن نادر. 


إن أروع الآثار الجانبية التي تخلفها الجوائز الكبرى، كنوبل، هي آثار حملتها الإعلامية لتأطير صورة الشاعر وتغليفه بخلاصات تقررها الأكاديمية السويدية، والتي تطبع ذاكرة القراء على المدى الطويل، فضلا عن منة الاعتراف المتأخر الذي يأتي عادة بعد فوات الأوان. فماذا عساها أن تفعل شاعرة خجولة كشيمبورسكا أمام بيان الأكاديمية السويدية؟ فهذه الشاعرة التي حاولت في ديوانها "الملح" 1962 أن تطرق الباب على حجر ميت منذ قرون عبر قصيدتها "حوار مع حجر"، بحثاً عن الأمان وصيانة لبلورة العزلة الهشة واستجابة للفضول قبل أي شيء آخر، ستجد نفسها فجأة في قلب عزلة طوعية جديدة، ولكن ليس في قلب حَجَر أو حُجرة، بل في أكثر الساحات انكشافاً أمام برق الكاميرات: "ما الذي سيتغير في حياتي؟ لقد تغيرتْ بالفعل، على أن آمل فقط ألا تنقلب رأسي رأساً على عقب، وإن كنت على يقين أن هذا لن يحدث لامرأة مثلي بلغت من العمر أرذله"، هكذا ترد على سؤال الصحافة عن الهزة التي نفضت حياتها الوديعة إثر فوزها بجائزة نوبل للآداب عام 1996.


في شعرها تتواضع شيمبورسكا للحياة كابنة للتجربة الشخصية والعامة، ممتنةً لمجموعة ضيقة ومغلقة من الأصدقاء، لقطة البيت، للعابرين على الجسر، وللحجَر الميت الذي يأبى أن يستقبلها: 

"غرف كبيرة وخالية

 أي نعم، قال الحجر.

لكن لا مكان فيها لأحد.

 جميلة، لربّما،

ولكن مستحيلة المنال عن حواسّك الخمس البئيسة.

يمكنك أن تعرفيني، ولكن أن تحسي بي، أبداً.

كلّ مظهري ينظر إليك وجهاً لوجه،

لكنّ ما بداخلي يدير لك ظهره للأبد".


على صعيد شخصي، أستطيع أن أقول إنني ومنذ أن قرأت ما تيسر من مُترجَمات شيمبورسكا إلى العربية وأنا أتعلم الكثير عن فضيلة الصمت في الشعر، وفي الحياة أيضاً، لاسيما في عصر يتاجر بالضوضاء كهذا الذي نعيش.


تعليقات

المشاركات الشائعة