كباقي الوشم في ظاهر اليدِ

 


للشعر لحظته المؤجلة دائماً واعتذاراته المتكررة. ولكن ما إن تحين تلك اللحظة الشعرية المنتظرة على خط التماس مع الكون حتى تُفلت الهُنيهة من فخاخ اللغة، فيلتفتُ الشعر إلى الوراء بحثاً عن طللٍ ما في المكان أو في الذاكرة، ساهياً في انتباهه الجارح لشعرية الأثر عن إيقاع الحاضر (المُعرَّف زماناً ومكاناً) أو صامتاً عنه؛ لكأن اللحظة الشعرية منذ "قفا نبكِ" حتى اليوم تقف على خصام أزلي مع ما يُوصف بأنه "حاضر" حرفي ومباشر في تجربة الشاعر الوجودية. فالشعر، هذا الفن اللغوي المُركَّز بدفق العواطف والانفعالات، والموصوف بعفوية مبالغ فيها تعتبر سلطة الوعي عبئاً عليه، هو مع ذلك بحاجة إلى لحظة زمنية تفصله عن إغواء الاستجابة المباشرة للحظة الراهنة من أجل استجابة عكسية لإغواء الذاكرة، ما يجعله متأخراً زمناً كاملاً عن مواكبة الحاضر. ولربما هي خديعة الذاكرة التي يفسرها الشاعر الفرنسي برنار نويل في "كتاب النسيان" قائلاً: "تضع الذاكرة الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي. هكذا تعثر على توازنها، وربما كانت هذه الحالة من التوازن هي الحركة الأولى للمعنى".


لن أسأم أبداً من ترديد تلك العبارة الجذابة التي تتكرر في كتب الأدب العربي عن امرئ القيس، والتي تقول بأنه كان "أول من وقف واستوقف وأول من بكى واستبكى" في الشعر العربي، قبل أن تتوافد المعلقات لتجعل من الموقف الطللي سنة شعرية ستحكم مطالع الشعر العربي لقرون طويلة منذ القرن الخامس الميلادي، ملقية بظلالها الفنية والنفسية على تجربة الشاعر المعاصر الذي يأخذ عن أسلافه تلك القوة في اشتقاق الحنين من الحجر وعادة البحث عن الشعر في كل ما هو ماضٍ. إن عودة شاعر معاصر إلى آثار تلك اللغة المهجورة في المعلقات، أو في سائر مدونة الشعر الجاهلي، بحثاً عن أقدم جذور الذات العربية المتوغلة فيها، يشبه إلى حد بعيد تعريج الشاعر القديم نفسه على طلل عافٍ أو رَسْمٍ دارس "يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ"، تحت ضغط لاعج مشابه من الاغتراب والنفي النفسي والجسدي: 


أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَهُنَا

وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ نَسيبُ


فإن تَصِلِينَا فَالقَرَابَةُ بَيْنَنَا

وإنْ تَصْرِمِينَا فالغَريبُ غريبُ  (امرؤ القيس)


فالشعر الجاهلي، المستجدي للحنين (وبالتالي للشعر) من بقايا طلل مادي بائد، يستحيل برمته في هذا التوقيت المتأخر من ليل الحضارة إلى طلل معنوي/ لغوي لشاعر عربي معاصر لم يعد اغترابه محض قضية شعرية أو نصٍ مكتوب على قارعة الكلام، بل أمسى مكاناً محمولاً في القلب، مزفوفاً بكواكبه المنثورة في فسحة السماء، تلك الكواكب التي علقها الجاهليون في أسمارهم البعيدة قبل أن ينفضُّوا عنها للخلود إلى جسد الطبيعة.    


 إن استلهام المعلقات ونفض غبار المعاجم عن مفرداتها، في ظل الحداثة الشعرية السائلة، لا ينأى كثيراً عن وصفه حنيناً للنص البدائي الذي نطقت فيه الجوارح والحواس بفصاحة رعوية لم تنشغل عن لحظتها التعبيرية المنذورة للبوح لترائي التوقعات الاجتماعية أو السياسية، بل كان لتلك الشفوية الشعرية أن تؤسس سلطتها المستقلة فوق سُلطات النُظم السائدة آن ذاك في الحياة الجاهلية.


أهو حنين شاعر مخلوع إلى مملكة الشعر المفقودة؟ لقد قُرئت المعلقات منذ الجاهلية حتى صدر الإسلام  كأعلى تمثيل لسلطة النص في اللغة العربية، إلى درجة تقترب من القداسة، قُبيل تنزُّل النثر القرآني. لكن شاعراً كتميم بن مقبل كان ممن رأوا في لغة السماء التي لهج بها اللسان المحمدي مزاحمة نبوية على سلطة الشاعر اللغوية، بالرغم من النفي الإلهي القاطع في مناسبات ومواضع مختلفة لادعاء تلبُّس النبوة بالشعر: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ)/ (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ). غير أن لامية كعب بن زهير جاءت في حينها كصلح السياسي بين نثر السماء وشعر الأرض: "إن بردة النبي وهي تشمل الشاعر الطريد تعتبر احتضاناً سياسياً/اجتماعياً له ووثيقة أمان تمنحه الطمأنينة في الدولة الوليدة والفضاء الثقافي الجديد"* كما يقول حاتم الزهراني في قراءة له يعنونها بسطر لمحمود درويش "لا بدَّ من نثر لينتصر الرسول"، من قصيدته "قافية لأجل المعلقات":


"وجدت نفسي عند خارجها

كما كانت معي، ورؤاي

لا تنأى عن الصحراء،

من ريحٍ ومن رمل خطاي

وعالمي جسدي وما ملكت يداي

أنا المسافر والسبيل

يطل آلهة عليَّ ويذهبون، فلا نطيلُ

حديثنا عما سيأتي... لا غد في

هذه الصحراء إلا ما رأينا أمس،

فلأرفع معلقتي لينكسر الزمان الدائري

ويولد الوقت الجميل!"


هكذا يُلح الصوت الجاهلي لدى محمود درويش، كما يلحُّ امرؤ القيس على سعدي يوسف في ديوانه "حفيد امرئ القيس" وكما التحم قاسم حداد شخصياً وفنياً بطرفة بن العبد في ديوانه "طرفة بن الوردة"، الأمر الذي يؤكد على نفاذ هذا الشعر الجاهلي واختراقه للحظته التعبيرية المحددةِ الزمانِ والمكانِ، ليس بوصفه تراثاً، بل امتداداً للإنسان على جغرافيا النص الصحراوي. فالشعر إذ يولد كأي ولادة طبيعية، يومئ ويهمس باللغة "ليدلَّ الإنسانَ على ما هو عليه" كما يقول الشاعر الألماني فريدرش هولدرلين، لكن نموه وتطوره رهينان دوماً بدحض هذه الحالة المؤقتة زمنياً والمحاصرة مكانياً. فالجغرافيا عزلته والتاريخ منفاه، وهو الهاجس الغريب بينهما. وليس من خصائص الشعر سوى تضخيم أشواقه التي تمنحه قسطاً من التعالي على انحطاط الراهن في هذا الحصار الذي يتمدد. إنه غيبوبة ضرورية للنأي بالذات، لاستقلالها عن سطوة الموجود لمناجاة المفقود، تحريك للساكن وتسكين للمتحرك، في إعادة توزيع لموسيقى الحواس والأشياء، وهذا ما تجسده بلاغة الحركة في معلقة امرئ القيس، أهم وأقدم النصوص المؤسسة للأدب العربي. 


*"لا بدَّ من نثر لينتصر الرسولُ": النبي والشاعر أم النثر والشعر، حاتم الزهراني، موقع "حكمة".



نُشر هذا المقال على جريدة عُمان بتاريخ 26 نوفمبر 2022




تعليقات

المشاركات الشائعة