اليأس الفلسطيني في تغريبة وليد سيف وحاتم علي

 

يقيم اللاجئ في حلم مستمر بين الخيمة والبيت، بين حاضر مؤقت وماضٍ يتطور في الذاكرة، متشظياً بين ثنائيات يتلاشى معها السؤال عن المستقبل وموقع الغد من حياته اليومية. يأسه ضروري لأنه الأسلوب الأكثر بلاغة في إعلان الحقائق الشفافة. وفي هذه القراءة الجانبية لليأس الفلسطيني الجارح أعود إلى التغريبة التي كتبها وليد سيف ليرسمها بالألوان المخرج الراحل حاتم علي، المسلسل الذي ما زال يُعتبر منذ إنتاجه قبل 18 عاماً أشمل وأهم عمل فني في ذاكرتنا البصرية عن القضية الفلسطينية التي تختفي اليوم فنياً وسياسياً تحت ملفات وقضايا عربية وعالمية أكثر "سخونة" إعلامياً.


في هذا العمل الدرامي المعقد، ليس بالمعايير الفنية والروائية وحدها، ولكن كذلك من حيث عمق التفاعلات النفسية الخاصة في الحالة الإنسانية والأخلاقية التي تعبر عنها الشخصية الفلسطينية، تشف صور اليأس وألوانه في تجليات تتباين من شخصية إلى أخرى في المسلسل، بل إن كل شخصية على حدة تخضع مع تطور الأحداث لتحولات تدريجية في تعبيرها عن حالة اليأس العام الذي يعقب نكبة 1948 وتبعاتها المصيرية. ولو شئنا الاحتكام إلى دراسة نفسية سابرة لقلنا إن كل شخصية من الشخصيات الرئيسة في هذا العمل تتطلب دراسة نفسية خاصة لتحولاتها الداخلية والخارجية بين اليأس والأمل، بين توتر اللغة وارتفاع حساسيتها حيناً، والصمت وموت اللغة حيناً آخر.


سأكتفي في هذه القراءة بالدخول إلى مشهدين منفصلين لكنهما متوازيين في واقع الأمر: أولا، مشهد التيه في الصحراء، والذي كان واحداً من أكثر المشاهد تأزماً وتكثيفاً ورمزية طوال المسلسل، أما الأخير فهو المشهد الذي يستأثر به حاتم علي بدور "رشدي" في الدقائق الأخيرة من عمر المسلسل عندما يمزق رسالة المنحة الجامعية. وفي هذين المشهدين بالذات نتأمل مسحة اليأس المضيئة والضرورية لأنسنة الأسطورة الفلسطينية ببأسها وبؤسها، وذلك لإعادة بنائها الثقافي من جديد كشخصية من لحم ودم، معتمدين على الاختبارات والضغوط التي تتعرض لها الشخصية الفلسطينية في سياق هذا العمل لتتبع صور اليأس المكبوت والمفضوح في نفس اللحظة، والذي تُعبِّر عنه الشخصية الدرامية/ التاريخية بإيماءاتها اللغوية والجسدية، كما يحدث في الشعر.




 لا بدَّ لمشهد التيه في الصحراء أن يحيل أي مشاهد متأنٍ إلى رائعة غسان كنفاني "رجال في الشمس"، فلماً ورواية. في هذا المشهد الحار تحتفي كاميرا حاتم علي بالصحراء المبسوطة ككف ممحو المعالم، وتصورها كرمز مكثف تقدمه الجغرافيا العربية الشرسة للحوار بين ثنائية الأمل واليأس، قطعة من العذاب بين عالمين نقيضين، بين الماء والظمأ، بين الماضي والمستقبل في واحة البترول الخالدة تحت ظلال العمران بالكويت. فصحراء التغريبة التي يقطعها ثلاثة رجال تتداخل ظلالهم وتنفصل على الرمل، هي ذاتها الصحراء التي قطعتها من قبل شاحنة "أبي الخيزران" وعلى ظهرها جحيم صغير بحجم خزان الماء، يختنق فيه أبطال غسان كنفاني الثلاثة حتى الموت بلا نأمة أو ضجيج. الثلاثة في الخزان واجهوا حتفهم المشترك بطريقة واحدة واستسلموا للموت البطيء معاً دون أن يدقوا جدار الخزان، أما أبطال وليد سيف الثلاثة فلم يتفقوا على مصير مشترك، وكانت لهم وجهات نظر مختلفة في التيه تبعاً لخلفياتهم وخبراتهم السابقة: مسعود الذي يعرفه المشاهد أكثر من بين الثلاثة كان أكثر أبناء عائلة الشيخ يونس تكيفاً مع المتغيرات والظروف الجديدة التي فرضتها النكبة، كان صاحب صنعة عملياً وشغولاً، يمكن وصفه بأنه الأكثر تفاؤلاً مقارنة ببقية شخصيات المسلسل العالقة في عُقد داخلية مختلفة من جراء النكبة أو من بقايا الحياة الطبقية في ظل الانتداب الإنجليزي. زرع مسعود تينة في فناء المخيم وقرر ساخراً أن يهديها "للوطنيين" عندما تُحرر البلاد ويضطر للعودة، لكنه مسكون بالبحث عن مستقبل أكبر من سد الجوع، وذلك ما لا يؤمِّنه كرت المُؤن الذي تمنح بموجبه وكالة الغوث مساعداتها للاجئين، لذا عزم على الهجرة إلى الكويت حُلماً بالمستقبل والرخاء المادي، تعويضاً عن مأساته الشخصية والعائلية، وانتقاماً من أبوَّته اليتيمة التي اختطفتها الخيمة في ليلة ماطرة. أما عايد فهو مجاهد سابق اشترك في المعارك الأخيرة قبل سقوط القرى الفلسطينية في قبضة اليهود، وهو أيضاً ابنٌ لأحد أبرز الإقطاعيين الصغار قبل أفول الانتداب البريطاني. سعيد هو الذي لا نعرف عنه أكثر من خفة دمه وسخريته المبكية، وكل ماضيه الشخصي تختزله قصة حبه المحروم لفتاة نصراوية. مسعود وعايد آمنا بالضوء الشحيح القادم من خيمة بدوية وتبعاه حتى آخر رمق فظفرا بالنجاة وبدُنيا الكويت الجديدة، أما سعيد الذي لعن الضوء وكذَّبه مراراً فاستسلم للموت عطشاً ونام في قبر غريب ووحيد في الصحراء.




وفي حين يبدو الاستسلام للواقع نتيجة لليأس والإحباط هزيمة مضاعفة، تكون قوة اليأس في حالة أخرى سبباً لانتصار ضمني يكمن في رفض هدية سخية تلبي طموحاً فردياً بالخروج من المخيم، مما يعني الرفض الحاسم في منح واقع الاحتلال غير الطبيعي أي اعتراف متبادل بشرعيته. هنا يقفز اليائس على خُبث الإحساس الطاغي بالإحباط وعدم الجدوى ليعبر عن حالة أسمى، حالة احتجاج صامت تتمثل في الإضراب المفاجئ عن السعي، حتى مع توفر الذخيرة الكافية للتقدم ومواصلة الاشتباك مع العالم. بوسع الحرمان الطويل أن يرتقي باليأس إلى أقسى تجليات الكرامة الشخصية، ولا توجد بلاغة ترفع هذا الاحتجاج إلى ذروة اللغة أعلى وأثقل وأبلغ من تلك العبارة التي تنهَّد بها "رشدي" في الدقائق الأخيرة من ملحمة "التغريبة الفلسطينية": "وشو الفايدة"! مبرراً احتجاجه ضد الواقع بهذه العبارة الصاعدة من ركام اليأس. في هذا المشهد نرى ذلك الشاب الفلسطيني وهو يمزق رسالة قبوله في الجامعة الباكستانية التي لطالما حلم بالالتحاق بها، كأي شاب عادي يحلُم في سياق الظروف "الطبيعية" في أي بلد "طبيعي"، وذلك بعد أن جاءت الأخبار بأن السلطات ستفتح الجسر لعبور الطلبة المبتعثين إلى الخارج. لكن رشدي الذي قادته النكبة مع عائلة أمه إلى المخيم لا يعلن مجرد رفضٍ قنوع لـ"المنحة" الجامعية فقط، بل يردُّ لها الإهانة التاريخية بتمزيقها! ولأنه لم يعد مؤمناً بواقعية هذا الواقع، فهو يجد في علاقته الحميمة بـ"أم سالم" المجنونة سراً لكل ما هو مفقود من الأم والوطن والذاكرة. يرفض رشدي أن يكون مستقبله رهينة تبتزه بها القوة القهرية التي تدير هذا الواقع، فتأخذه العزة بالألم ليتخلى عن حلمه الخاص، منتمياً إلى حُلمه الجماعي كابن مخيم يحلم بالعودة التي لا سبيل لها إلا بالعودة لميراث السلاح.


نُشر هذا المقال على جريدة عُمان، عدد الأحد 16 أكتوبر 2022 


تعليقات

المشاركات الشائعة