دمٌ بين النفط والماء


حتى اليوم، ما زالت الذاكرة في الخليج تحفلُ بصور مشتعلة لمشاهد الحرائق النفطية فوق مياه الخليج العربي، تلك التي اندلعت مع سلسلة التفجيرات التي قام بها الجيش العراقي لحوالي 1073 بئراً من آبار النفط الكويتية، في مساء الخميس، 21 فبراير من عام 1991، قُبيل الانسحاب العراقي من الأراضي الكويتية. كانت تلك سياسة «الأرض المحروقة»، أو «الأرض الخراب»، العنوان الشهير للشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت، في محاولة يائسة من الجيش العراقي لإعاقة تقدم قوات التحالف المحتشدة لعاصفة الصحراء. وليس المناخ بملائم لكي تنكأ هذه السطور الجراح (العربية العربية) في هذا التوقيت المستعر، إلا أن الغيوم السوداء التي غطت سماء الخليج العربي والدول المطلة على المحيط الهندي خلال تلك الأشهر الصعبة، ستظل شاهدة في الذاكرة على الرمزية الكارثية للحرب التي يُقال عنها في الأدبيات السياسية إنها «الصوت العالي للسياسة». كما ستذكرنا النيران التي ظلت مشتعلة بعد ثمانية أشهر من انتهاء الغزو، في مواجهة 10 آلاف رجل من رجال الإطفاء، بأقدم المستحيلات التي عرفها الإنسان وهو يحاول الجمع بين الماء والنار.


هكذا، لم تعرف العلاقة بين الماء والنفط أي تصالح يُذكر في تاريخ المنطقة القريب، منذ أولى ملامح اكتشاف النفط في الخليج ورواج سوقه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى تراجع المسؤولية القومية عن الماء لصالح النفط. فصارت المحاولات العربية للموازنة السياسية والاقتصادية والبيئية بين هذين المركبين الخطِرين صعبة للغاية ومستحيلة على الأغلب، في ظل السعي اللاهث للحكومات العربية نحو النمو الاقتصادي السريع، الذي بات من الواضح أن أسرع الطرق إليه وأسهلها تبدأ من برميل النفط الخام وتنتهي عند البنزين والديزل وسائر المشتقات النفطية. فعرفت عواصم الخليج العربي، بفضل ثروة البترودولار، مدن الزجاج وناطحات السحاب، وعبَّدت الإسفلت الذي يشق كبد الصحراء لآلاف الكيلومترات، بينما تعبر على جانبيه قوافل من الجمال الساهمة، شاهدةً على حداثة لا تفهم نفسها ولا تفهمها الجِمال، وقد لا نفهمها نحن الذين نقطع يومياً شوارع الإسفلت تلك إلى وظائفنا. وليت أننا اكتفينا بغنائم «الذهب الأسود» وما تثيرها من صراعات طبقية دون أن يجرنا التاريخ إلى حروب عبثية اختلط فيها الدم العربي بالنفط والماء، وقد كانت حربا الخليج، الأولى والثانية، أشرسها على الإطلاق.


ومع ميلان الكفة الاقتصادية لصالح النفط ومشتقاته على حساب الموارد المائية والطبيعية، بل حتى على حساب «الثروة البشرية» أحياناً (مع تحفظي على صيغة المصطلح الطافح بالنبرة الرأسمالية)، تَرسَّب في إدراكنا - نحن الأجيال المتأخرة- تجاهل طويل لهاجس الماء ودوره في إذكاء الحروب والصراعات التي عرفتها البشرية في تاريخها الدموي البعيد والقريب. وكأنما الأخبار السياسية عن الماء والاقتتال على مصادره، في هذه اللحظة من التاريخ الذي نعيش، لا تأتينا إلا لتذكرنا بمعضلة الإنسان القديم الذي بنى الحضارة على ضفاف الأنهار، أو بدويّ الصحراء الذي تذهب حياته في إثر الماء حِلاً وترحالاً وقد يخوض حرباً أسطورية لأن ناقة غريبة وردت من بئر عشيرته. دون أن نستوعب بشكل كافٍ، تحت تأثير الأسطورة التاريخية عن الماء، حقيقةً مفادها أن المياه الجوفية والسطحية ما زالت منذ فجر التاريخ لاعباً خطراً في صناعة القرار السياسي وترسيم الحدود البرية والبحرية بين الدول، وأن المساس بالأمن المائي يؤثر بشكل حاسم في قرار الحرب والسلم. فهل ما زالت العبارة السائرة التي لُقنَّاها صغاراً في المدارس «الماء شريان الحياة» صالحة لتفسير خريطة الشرق الأوسط الجديد، في ظل «سايكس بيكو» القرن الواحد والعشرين؟


علينا أن ننتبه هنا إلى ملاحظة مهمة: دائماً ما كان هناك مورد طبيعي معين يمثل هاجس أي حرب استعمارية عبر التاريخ. ومن البديهي القول إن مفهوم التوسع لدى القوى الإمبريالية، القديمة والمعاصرة، لا يُختزل في رغبتها بضم المزيد من الأراضي إلى جناح الإمبراطورية فقط، بل يفسر في ذات الوقت الأطماع الاستعمارية في موارد بعينها قد تشتمل عليها «الأرض الجديدة». وقد يعيا المستعمِر أحياناً بإدارة الأرض في ظل هوسه وانشغاله بنهب مورد معين قطع من أجله المحيطات، كما حدث مع الجيش الأمريكي أثناء سرقته للنفط العراقي بعد سقوط بغداد (إبريل، 2003). وفي تاريخ مشابه، أخذ الذهبُ سيرة أسطورية في تاريخ حرب الإبادة التي شنها الرجل الأبيض على الهنود الحُمر (السكان الأصليين).


ولتجديد الانتباه حول أهمية الماء في صناعة السياسة المعاصرة على غرار النفط، يجب أن نتذكر أننا اليوم في القرن الواحد والعشرين وما زال هناك كيان مارق في قلب المنطقة كإسرائيل، يُصر على اتباع سياسة إعطاش الإنسان والأرض على حد سواء من أجل تركيع الشعب الفلسطيني! والانتباه الإسرائيلي للماء ليس وليد الصدفة التاريخية أو اليوم، فالماء كان أحد أهم محفزات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وكان تقصي منابعه ومصادره هو المحدد الرئيس لأماكن إنشاء المستوطنات اليهودية. ويُنقل عن هرتزل إسرافه في مديح مهندسي المياه خلال تلك السنوات، قائلاً: «إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة -القديمة- هم مهندسو المياه، فعليهم يعتمد كل شيء، من تجفيف المستنقعات إلى ري المساحات الجديدة وإنشاء محطات توليد الطاقة الكهرومائية». كما يدخل تحت هذا السياق الطموح الصهيوني المأثور والحالم بتحويل الصحراء (أي فلسطين التاريخية) إلى واحة خضراء، وإقامة «إسرائيل الكبرى» المزعومة من الماء إلى الماء، أي من النيل إلى الفرات! ولا ننسى، ولا يجب أن ننسى، أن تحويل مجرى نهر الأردن كان الشرارة الأهم في حرب 1967. إلى جانب ذلك كان الماء هاجساً مُلِحاً على طاولة المفاوضات بين الإسرائيليين والعرب على مدار العقود الماضية، التي أسفرت عن اتفاقين مهمين: وادي عربة وأوسلو. وكل ما سبق كان من الشواهد القاطعة على الأهمية القومية والاستراتيجية للماء في الصراع العربي الإسرائيلي بصورة خاصة، وفي سياق السياسة الدولية بصورة عامة، وهي الأهمية التي ضاعت وتراكم عليها غبار النسيان في ظل السعار العربي والعالمي على النفط.


وليست هذه السطور إلا هامشاً في قصة الحرب والسلام التي يخوضها العرب مع أنفسهم ومع أعدائهم، داخل مثلث النفط والماء والدم، لقرابة قرن من الزمان صاغته عبارة فلسطينية راجت أثناء حرب المخيمات، عندما كان قناصة أمل يطلقون النار على النساء والأطفال الفلسطينيين في طريقهم لجلب المؤن والماء إلى المخيم: «إن كأس ماء تساوي كأس دم»!

نُشر هذا المقال على جريدة عُمان بتاريخ 7 فبراير 2022

تعليقات

المشاركات الشائعة