أفكرُ شِعراً وأحلُم نَثراً



كقصيدة فكرتُ بالمعنى، 
وفي نثري حلمتُ بأنني
أمشي خفيفا خارج الإيقاع...

لا الحُلم يبرأ من وعي صاحبه المسبق ومن تراث التجربة، ولا الفكر الحر بمقدوره أن ينأى تماماً عن الأحلام والكوابيس، مهما حاول أن يتنزه عنها. لكن القصيدة قد تشرد أحياناً عن الانتباه ووعي الصنعة، فتمرض بشهوة الأحلام حتى الهلوسة التي لا تعمل إلا على استنزاف الصور والألوان وإجهاد مخيلة القارئ إلى لحظة الإعياء الأخيرة، وحينها يفرغ الحُلم من نفسه فيتحول تدريجياً إلى وهم لا يخصُّ سوى صاحبه، فهو غير قابل للمشاركة مهما سال في الكلام المندلق على البياض كالألوان التي تهذي في تداخلها الحار خارج سلطة الوعي الفني، غيبوبة تصيب المضمون، معلنةً انتحار الشكل في المزيج اللوني السائل.

أقول إن النصَّ المتمادي في الحلم الواهم، المنفلت من عقال الانتباه، هو في العمق ذاهب إلى جهة القطيعة مع الآخر، حصري الدلالة والإيحاء، مغلقٌ على الذات، مستسلمٌ لنزواتها الخالصة التي قد تشف عن أنانية ما، أنانية تنتهك آخر الصلات اللغوية الرفيعة بين لغة الفرد (الشاعر) ولغة الجماعة، وتقضي -في جموحها التخييلي- على المشترك الضروري الذي يتيح للآخرين فرصة التفاعل مع نصٍ لا ينشغل بالتعبير عن الذات فحسب، بل  يستغرق فيها إلى حد الغرق المعتم.

الشاعر، وهو في حالته النشوى هذه، لا يعلن تمرده على السائد (كما يدَّعي أو يبرر عادة) بقدر ما يفضح تماديه غير المسؤول الذي يجعل من الكتابة مجرد تدوين لأضغاث ليل يبطلها ضوء الفجر الأول.

إن قلقي المستمر من هذا التمادي مع اللحظة الشعرية التي توسوس بإلحاح هو ما يحرضني على الإيمان أكثر من أي وقت مضى بالكتابة البطيئة، بأبطأ ما يكون الحب والموت في جسد واحد، فالبطء هو ما يجعل من الحذف أو "المحو" شريكاً يمارس مهامه الرقابية على عملية الكتابة التي تنحت في اللغة جهةً للمعنى، في عصر التدفق السريع هذا، ما يجعل من الشعر أيضا "نحتا في الزمن" العنوان الذي نحته المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي من أجل السينما التي تجعل الآخرين أقل وحدةً واغتراباً أمام المشهد، وذلك بعد أن تلقى رسالة من امرأة غريبة إثر مشاهدتها لفيلمه "المرآة": "أشكرك على الفيلم، طفولتي كانت كذلك. إحساس مدهش كان يملأ روحي كلها... لكن كيف عرفت ذلك؟ وأنا أنظر إلى الشاشة المضاءة بموهبتك، شعرت للمرة الأولى في حياتي بأنني لست وحيدة!" رغم أنه تلقى في الوقت ذاته رسائل أخرى تنطوي على انطباعات سلبية، بل وموحشة، كرسالة مهندس يقول: "كم هو مبتذل فيلمك! كم هو مقزز! أي هراء وتفاهة! فيلمك مجرد صور فارغة وعقيمة على أي حال، هو لم يصل إلى الجمهور بالتأكيد، وهذا هو المهم". ولا أريد أن أشرح طويلاً هنا كيف يتلقى الشاعر آراءً مشابهة، خاصة إذا ما كان أمام جمهور أكثر جرأة منه، فالفنون وإن اختلفت أجناسها إلا أن تنافر الحالات الانطباعية حولها يبدو متشابها.

أفكر شعراً إذن، وأبحث بين أروقة الأفكار غير المكتوبة عن لحظتي الجديدة، حيث الكلمات تخدع في أُهبتها لتصبح شيئا آخراً قبل أن يمحوها غبار المعاجم أو تضجر من نفسها في استعمالاتها اليومية الجاهزة؛ فلا يعود فيها من الملح ما يكفي لتدخل بلا نشاز في نسيج اللغة الشعرية. ولكن بالكلمات المستعملة وحدها يستطيع الشعر أن يهندس الوجود في حيز من الفراغ المطلق. ينفخ في العدم المطبق من حوله فينهار، لتأخذ القصيدة شكلها النهائي في البياض الشاغر، ويعلن الشاعر عن نفسه كأول الشهود على عالم جديد يتكون سراً وبعيداً عن سطوة أي سلطة تقليدية سوى سلطة الشاعر الذي سيكون بوسعه أن يموت مُطمئنا بأن الشعر لم يزل ممكناً ما دامت الحياة ممكنةً حتى في حدائق الموت المفتوحة، لأن الأوائل، الذين أسسوا العلاقات الأولى بين الكلمات والأشياء، لم يقولوا بعدُ كل ما يمكن أن يُقال عن المرئي قبل الخفي. وقد كتب ريلكه قبل قرن من الزمان في رسالته إلى شاعر شاب، قائلاً: "إن معظم الأحداث قد وقعت في مكان لم تطأه يوماً كلمة".

أحلم نثراً إذن، وأعود للمشي الذي يشبه السرد عندي، أمشي خفيفا خارج الإيقاع بحواسي البدائية جداً، وأعيد النظر في الأفكار التي تشحب وتُترك لتجفَّ حتى الموت في الكتابات الأكاديمية ومقالات الصحف اليومية لأنها -حتى وإن كُتبت في المنام- لن تدوَّن إلا بأسلوب لغوي تجريدي يحرم الفكرة حصتها الضرورية من مادة الحُلم التي تجعل من النص أفقاً قابلاً للحياة وتبعث على الرغبة الماتعة لإعادة القراءة المستمرة.

لكن الغريب الأهم هو أن يأتي هذا الأسلوب المتقشف حتى من حمولات اللغة البلاغية البسيطة والعادية التي يصعب تخيل اللغة بدونها حتى في الموت، ولا يمكن نزعها منها سوى بالملاقط الطبية... يأتي هذا ادعاءً للموضوعية والصرامة العلمية والأكاديمية، وانحيازاً لـ"الدقة" في تلك الكتابات الخارجة من غُرف المختبرات! أما أنا، فشخصياً ما زلت لا أفهم كيف يمكن للمجاز مثلا أن يجرح الدقة؟! كما لا أفهم كيف لغبار الشارع أن يعكَّر مزاج الشاعر ومجازه وراء مكتبه الزجاجي المكيَّف؟! كما لا أفهم أساسا هذا الانشطار التقليدي الصادم بين الحلم والفكر، بين العلم والفن، الانفصال الذي يتسلل إلى الأدب في محاولات بائسة لفضِّ مساحة الاشتباك بين الشعر والنثر.

في الحقيقة إن أي نص يتكون سيظل حتى لحظته الأخيرة في حالة استقطاب بين الخيال والواقع، مع الانتباه إلى أن الانحياز إلى الخيال لن يؤدي إلى الشعر بالضرورة، كما أن الانحياز إلى الواقع ليس شرطاً أساسيا للدخول في النثر، لأنني لا أرى في الشعر والنثر نوعين، بل أسلوبين مختلفين يتبلوران في خارطة النص بلا حدود واضحة. لكنني أؤمن بـ"القصيدة" وأُخضع لغتي لشروطها الفنية الصارمة، وهذا شأن آخر لا علاقة له بالمزاح المتبادل بين البحر والبر، بين الشعر والنثر. كما يمكن القول بطريقة أو بأخرى إن أي نص في النهاية المطاف سينتهي إلى الأدب ما دام قد دخل إلى الوجود لغةً، ولن تتجلى أدبية أي نص معرفي أو علمي إلا بعد أن يتخمَّر طويلاً في جرار الزمن الذي يحوله إلى تراث، فنحن اليوم لا نقرأ مقدمة ابن خلدون لأهميتها التأريخية فحسب بل نقرأها كأدب أيضا.

وأخيراً، يولد الأدب من الوهم والحقيقة، كما يولد من الخطأ والصواب... ليس هذا مجازاً مفتوحاً على فراغ المعنى، بل هو حدث مباشر في خضم تاريخ الكتابة، يُرى ويُسمع ويجسُّ بالقلب. وكلما جنح النص إلى المشي على الغيم ردَّته الحقيقة إلى غبار الأرض، ولن يعثر الأدب على نفسه إلا في هذه الحالة من التوازن الدقيق بين سماء مفتوحة للتأويل وأرض حَرفية الدلالات.







تعليقات

المشاركات الشائعة