أصدق هذا السراب الذي يتقدم نحوي... وأمضي



يخلع القلب جانباً جسدي عنه ليلتصق بالتراب، عارياً ويتيماً كأي شيء سأعثر عليه لاحقاً بالصدفة بين خامات الأرض. كان صف النخيل عالياً على الجانبين، عالياً فوق أكتاف النشيد، عالياً فوق أي شيء قد يخطر على يدي لتنال منه. قمرٌ قرويٌّ للنعاس الفاتن والنوم المبكر، يشحذ عليه الرجال سكاكينهم ليلة العيد، أراقبه وهو يذوي شيئاً فشيئاً كشعرة أبي البيضاء في الحساء، أو كسُرَّة في مياه الحوض الساكنة، مع وصول القصيدة إلى اكتمال كواكبها وتمام أبياتها، فأطفئ مصباح القراءة وأخلدُ ميتاً إلى جسد الطبيعة، لتستيقظ في موت النائم قرية صغيرة على ضفة القلب، مجروحةً بوادي سمائل وهو يجرف أعجاز النخل كما يجرف الموتى من مقابرهم، لتجدهم فرق الإنقاذ صباح اليوم التالي مشنوقين على قصب الروغ الكثيف. موتى يولدون، ومواليد يذهبون خلف الأمهات إلى مقبرة الأطفال التي تحولت منذ أن أقفلت على جثامينهم إلى مرعى مستباح للماشية. والشعر يراقب المشهد المنقلب صامتاً أمام دورة الموت والميلاد في رئة القرية الصغيرة. شعب كاملٌ هنا، حالم أكثر من ثقة النائم الساري على الغمام، وعاديٌّ أكثر مما ينبغي على تراب الأرض، منذ أن توقفت المعجزات الكبرى عن الحدوث في ذلك المكان الصغير المنقبض من قلب عُمان، ولم يتبقَ من الخرافة إلا الموت… وتغسيل الميت وتكفينه ثم تشييعه في دروب المصابيح الناعسة التي يرفُّ حولها الفراش. هناك، وعلى هذا النحو ولدت بالسليقة، على عجلة من أمري وأمي. لم أتفحص جسدي الرطب إلا بعد أن جفَّ، وصار بوسعي الإيماء بأطرافي أولاً، ولاحقاً بالشعر. ولدتُ والزمان المستقل عن مكانه يتوتر كخيط الفجر الرفيع في العيون، واصلاً بين أمس سابق وأمس لاحق، أتعثر بينهما في طريقي إلى المدرسة ثم إلى الجامعة، كما أتعثر الآن على هذه الصفحة البيضاء المخططة، في هذا الليل الأليل، لكتابة جملة مفيدة عن الشعر.

لا يمكنني أن أكتب عن الشعر إلا من خلال الكتابة عني وعنه وعن حياة الآخرين على صفحة واحدة، كتابةً حلمتُ بها منذ زمن لأكوي الفروق العصية بين أسلوب الحياة وأسلوب الشعر، فقد يفلح برق جملة نثرية متأخرة في إضاءة الثقوب العمياء التي ينساها الشاعر في قصيدته مفتوحة على الظلام. وفي الكتابة عن الشعر تنبعث متعة سرية لا أعثر عليها غالباً عند الذهاب لكتابة الشعر نفسه، متعة تُعوض الشاعر المهزوم في ثنايا النص الشعري الصارم بمساحة مفتوحة للركض الحر، متعة الكلام عن الحب بين رجل وامرأة يستلقيان على بساط العشب وهما مستقيلان من التجربة... وليكن هذا أحد اعترافاتي الليلة.

قرية سرور، بعدسة المصور معاذ الندابي


هنا، في وصف الشعر، تتنسم الكلمات حُرية الإنشاء في رحلة مدرسية صوب الغابات: يجمع الأستاذُ التلاميذَ على المدخل فيسألهم كتابة جُمل قصيرة على دفاترهم المدرسية، جمل ترادف المعنى المترامي أمامهم وتومئ إليه دون أن تقترف التعاريف التي ترعب الشعر وتروّع غفلته الجميلة على الفخاخ، فيما يحذر أستاذ اللغة العربية تلاميذه من الحشو وجناية الكلمات الزائدة على جهة المعنى، قبل أن يأمرهم بالتفرق. هكذا أنتشر -واحداً من هؤلاء التلاميذ- للتنقيب في جغرافيا لغتي عن المرادفات التي تقودني إلى روح الشعر الكامن في تفاصيل الحجارة غير المستثارة بعد، والنائم بأعين يقظى على حركة الزمن في مقتنيات حياتنا اليومية التي لا ينبغي للشعر أن يتنزَّه عنها، لأن الخلود الشعري كامن دوماً في قدرة الشاعر على تزويد المؤقت بأسباب الحياة الأبدية، كامن في عبادته للحظة الآنية الشرهة خلال الساعات الأربع وعشرين، حتى تصبح متحفاً لزوار الزمن المتأخرين، سوَّاح الأطلال الواقفين بمفكراتهم الصغيرة على جثة نهر قديم في أحشاء الغابة.

لا أدري في هذا الليل أيهما كان الأول ميلاداً في تجربتي: قارئ يحمي هشاشة فكرته بما يحفظ من شعر الأوائل المدججين بكامل عدة اللغة من طباق وجناس، أم شاعرٌ أمّيٌّ يتمرن على هجاء المعنى؟ سقط السؤال سهواً عن الطريق، ومضيت -كيفما اتفق- إلى سراب الشعر، قارئاً يحتفي بشاعره المؤجل. لا خلفَ خلفي سوى ما قطعت من الطريق التي تبدل أعشابها بين الفصول لتمنح القلب المشتاق إلى جنة السراب جهةً ضروريةً للحنين إلى سنوات اللعب الطائش بالكلمات، يوم أن انبلجت عيناي على كُتب الشعر العربي في مكتبة البيت الفقيرة، وفي أشرطة الكاسيت الصدَّاحة بترتيل نونية أبي مسلم البهلاني. أتذكر الإيقاع وأنكمش في سري، أتذكر الإيقاع وهو يدوّي في بئر لا قرارة له ويصعد صداه مع شلو الماء. أمد يدي إلى صندل يندى في إحدى الإناث الخارجات لتوهن من خدر المعلقة الجاهلية، فيخطفها البرق قبل أن تصل. أختلج بين الجرأة والحياء الخبيث، مراهقاً يربي سنواته بصرامة على ضبط إيقاع الحياة البطيئة مع بحور الخليل بن أحمد.

***

لا أحفظ ملامح ذلك الطفل البعيد الذي لم تنل منه ومضة الكاميرا إلا في أعياد معدودة، لكن القصيدة التي أكتبها أقدمت على ما يجعلني قلقاً في هذه اللحظة. لقد أقدمت القصيدة على تجريب الرسم، الرسم بالفحم، فأدمنت رسم الملامح الغائبة دون أن تنجو من تزوير متعمد يجعلني خائفاً من ولادة طفل جديد ينقلب صورة سلفه المغرورقة في ماء الفلج الأخضر.

لا أثق بالأرض التي تجرها وتحركها من تحت قدمي هجرات القبائل وزحف الجيوش. أستوطن لغتي بدوياً في كل مكان وزمان، يحلُم بالجغرافيا المكتوبة، بالجغرافيا التي يضعها الشاعر في موقعها الملائم بين الماء واليابسة على الخريطة. لا أرض خارج اللغة ولا بحر. ولا "جبال الَحَجر" هي جبال الحجر التي تسيج قلبي منذ عصور إذا لم أعثر عليها وهي تتناسل في مخيلة شاعر عمانيّ.

***

والآن، هل تصدق حقاً سرابك في المشي نحو القصيدة؟ يسألني شاعر متقاعد في الخمسين. فأقول: أصدق أن السراب سيمشي إلي ويتبعني إن أردتُ... وأمضي في العشرين من حلمي حافياً على الريح، إلى سدرة المنتهى، في آخر الصحراء التي لا تنتهي.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر هذا النص في أبريل من عام 2022 على مجلة الفلق، ضمن ملف بعنوان "معالم في طريق الشعر".

تعليقات

المشاركات الشائعة