قبضة رؤوم على الرِّسغ

 



هذا الصباح عُدت لأتشاجر مع أمي، بعد أكثر من ثلاث سنوات أقلعت خلالها عن هذه العادة، منذ أن استقرَّ بي المُقام في العاصمة. في البُعد كُنَّا جميلين، مفضوحي الشوق؛ قبضة رؤوم على الرسغ تكفي لتنفلتَ مسبحة من الحنين القديم على عتبة الدار عند الوداع الصعب الذي يحدث لأول مرة كل ليلة سبت. كم ذكرتني بأول فتاة اضطرب جسدي بين يديها، كم فاجأني ذلك الشبه في القهر الغالب بين أمي وحبيبتي الأولى! 


أمي جميلة في الغالب، صبورة حتى الصوم عن الكلام ليوم كامل. إلا أن الطريق الرعناء من بيت أبيها إلى بيت زوجها جردتها من آخر مقتنيات طفولتها الزهيدة ومن حصتها في الوقت والملل وتقليد صوت أسمهان على موقد النار، فلم تدَّخر غير ذاك الشجن المتخثر في موضع غامض من قلبها، نجهله كلنا، بينما تختلس الخلوات لتزوره كضريح مُترب. 


لم تركن لحساسيتها لفرط ما أُكرهت على مهامٍ شاقة وهي تستقبل ربيعها الثالث عشر في بيتٍ متهالك الغُرف، تديره سيدة قاسية، هي جدتي. لكن حساسيتها المكتومة ستظل تُسفر عن مضاعفات مرعبة كشفت عن امرأة وجِلة على الدوام وعلى أهبة البكاء بعد كل مشاحنة كلامية. لم تحظَ بالأهمية بقدر ما حظيت بالمسؤولية التي لا يجيدها شخص كأبي، الذي ظل رجلاً غير متطلع لأهمية من نوع معين. كانت تلك مشكلته وسرَّ احترامي له في ذات الوقت كلما تذكرت أنه ابن عائلة كل ذكورها مأخوذين بالأهمية؛ تصير أصواتهم خشنة على نحو مبالغ فيه قبل حلول البلوع، يقضمون أظافرهم ريثما تدور عليهم مائد الكلام في المجالس. 


كل ما فعلته بنا أمي هو أن تنحت بنا جانباً عن ذلك السباق الاستعراضي إلى دائرة سلطتها الخاصة، إلى غطرسة الأم التي تفشت أكثر بعد وفاة جدتي ورحيل هيبتها عن المشهد. وجدت دائماً الحق في فرض قرارها على شؤوننا الخاصة. وما إن تيأس من صراعاتها معي حتى تشهر عبارتها الإنسحابية بدراميتها المعهودة والمستنبطة من مظلوميتها الأبدية: انته عديم القلب!


ولكن لماذا لا يحلو لي أن أتخيلها إلى جواري إلا في المقعد الخشبي الطويل داخل المبنى القديم لمستشفى سمائل، بانتظار أبي الآتي متأخراً كعادته؟



7 مايو 2020


تعليقات

المشاركات الشائعة