جدار برلين... شواهد سينمائية


لستُ مشغولًا بالكتابة عن السينما هنا، بقدر ما أجدني منهمكًا في الكتابة من خلالها، داخلاً إلى باحة المشهد السينمائي عبر الكتابة، وأنا أتذرَّعُ بالعنوان الشهير لأبي حيان التوحيدي “الإمتاع والمؤانسة”، حيث أسمى ما تنشده الكتابة هو قدرتها الخلاّقة على إمتاع وإيناس المتلقي والكاتب معًا، لا في أن تكون منخرطة في مهام ثورية، أو متطلعة لتحقيق شروط مسبقة.

هكذا يراود عنوان التوحيدي هوى قديمًا في النفس، يحرضني للكتابة في المساحة المشتركة التي تجمع التاريخيَّ والأدبيَّ بالسينما. وفي هذا المثلث، يحلو لي أن أتعامل مع السينما والتاريخ بوصفهما جنسين أدبيين، يعثران على هاجسهما المشترك في ذاكرة الفرد والجماعة، التي لا ترتاح من معاركها ضدَّ النسيان، أو لأجله. فعبر ذاكرة الجماهير تتقدم السينما كفعل مقاومة يذود السهو عن المأساة بإعادة إنتاج المأساة. دون أن تتورط السينما في عمل المؤرخ؛ بل تقتبس منه ما يعينها على تحنيط الجرح في متحف الألم الإنساني المستمر. وبالنسبة للسينما، فإن الذاكرة ليست حديقة الأمس التي فات الأوان على العبث بها؛ بل هي ميدان عمل الحُلم ومنبعه الأول لتعويض الحالمين عن واقع مكسور وشحيح. إننا في طريقنا لتلمس لون جديد من الذاكرة مع بزوغ السينما على يدي الأخوين لوميير، تلك الذاكرة التي تنشأ بمعايشتنا للمشهد السينمائي، ومشينا الحالم خلفه إلى أماكن وأزمنة مفقودة، وتجارب صرنا شهودًا عليها أو جزءًا منها بفضل السينما، والتي ستصبح امتيازًا فريدًا لـ”إنسان ما بعد السينما”. قد تصطدم بالواقع، تتقاطع معه وفي وسعها أن تخلقه أيضًا. 

كلما تراكم التاريخ وجد أبطاله وضحاياه أنفسهم من جديد وجهًا لوجه داخل السينما اليقظة لحركة التاريخ ورموزه التي لا ترتاح من الخصام فيما بينها: شخصيات ومدن وقلاع وأسوار، على هذا النحو يأخذ جدار برلين (1961- 1989) موقعه من التاريخ والسينما كرمز للحقبة الأكثر قلقًا في التاريخ المعاصر: الحرب الباردة، التي أسفرت نهايتها، بانتصار الرأسمالية، عن بزوغ “العالم الجديد” ذي القطب الأوحد بزعامة الولايات المتحدة. سيشكل جدار برلين صدعًا عنيفًا في هوية أوروبا المعاصرة، الخارجة لتوها من أنقاض الحرب العالمية الثانية. كما سيتسع ذلك الصدع ليشمل العالم بأسره، بما في ذلك بلدان “العالم الثالث”، الصاعدة هي الأخرى من رماد حقبة كولونيالية مريرة. وعلى مدى ثلاثين عامًا، سيأخذ الألمان الشرقيون ملامحهم من صورة الجغرافيا المنهكة والمنشطرة عبر الجدار الذي يقسم العاصمة الألمانية بين الحلفاء المنتصرين إلى برلين غربية: بؤرة المعسكر الغربي، وأخرى شرقية ستغدو معقلًا جديدًا للشيوعية تحت وصاية السوفييت. وسرعان ما سيصبح وقع مفردة “الحرية” في صحافة ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) مصطلحًا ذا هوى غربي، لا يختلف كثيرًا عن “الوجبات السريعة”. فكيف كانت تجري تفاصيل الحياة العادية خلف الجدار؟ كيف للفن أن يخلق نفسه بنفسه في ظل رهاب الحرية؟ وكيف ستدافع الحياة عن نفسها مع تفاقم الاكتئاب السياسي الذي تعيشه البلاد وراء شعارات الاشتراكية ورموزها المنصوبة في كل مكان؟ 

كريستا فولف (1929- 2011)

في تلك السنوات من عُمر الجمهورية الاشتراكية الوليدة كانت الأديبة الألمانية كريستا فولف تتعرض لصدمة حياتها، حيث تقودها المصادفة المحضة لاكتشاف أنها كانت لسنوات موضع “مراقبة مشددة” من قبل الشرطة السياسية السرية (شتازي)، المصادفة المريعة التي ستقودها لكتابة روايتها الذاتية “ما يبقى”: أشبه بتدوين يومي لهواجس شخص مُراقب، في بيت مُلغَّم بأجهزة التنصت. وستكتب: “إنني حين أشاهد فيلمًا يُعرض لمناسبة ما عبر التلفزيون وتدور أحداثه حول أملٍ كنتُ أنا أيضًا أنتمي إليه ذات يوم، لا أتمالك نفسي من البكاء”1… العبارة التي سأتبعها لتخيّل ما إذا كانت كريستا فولف قد حظيت بفرصة لمشاهدة الفيلم الذي سيحصد جائزة الأوسكار عام 2006:” حياة الآخرين- The Life of Other “2، قبل رحيلها بعد خمس سنوات من إنتاج الفيلم؟ كيف سيبدو الأمر بالنسبة إليها عندما تتقاطع التجربة الحياتية مع التجربة السينمائية؟ فعبر هذا الفيلم يقدم المخرج الألماني فلوريان هنكل فون دونر سمارك شهادته السينمائية عن ذلك العالم المغلق القابع خلف جدار برلين، وعن تجارب كثير من المثقفين والفنانين الألمان الذين باتت تفاصيل حياتهم جزءًا يوميًا من حياة رجال غامضين يتناوبون على أجهزة التنصت وسيارات التتبع.

بصورة ما فإن حياتنا هي “حياة الآخرين”. إنهم بقدر ما ينتجون أنفسهم ينتجوننا، سواء كنا أفرادًا، شعوبًا أم قبائل. نستطيع عبر هذا الفيلم أن نُلامس حواف هذه الفكرة، ونحن نعاين التناوب المستمر الذي يدور على دور “الضحية” بين الكاتب المسرحي جورج دريمان وضابط الأمن المكلف بمراقبته، هوبتمان ويسلر. كأن المخرج الشاب، فلوريان هنكل، يحاول أن يسحب بطولة الفليم المتوقعة من الضحايا المباشرين، الكاتب وزوجته الممثلة المسرحية كريستا ماريا، مانحًا إياها للجلاد المفترض (رجل الأمن)، الذي يتداعى مع الوقت كضحية أخرى، فيجد نفسه أسير مسلسل الأحداث والحوارات في حياة الزوجين. حيث تمارس تفاصيلهما الحميمة ومعزوفة بتهوفن داخل الشقة المراقبة وعبثها العاطفي بهوبتمان ويلسر القابع خلف أجهزة التّنصت. فتسيل دموعه على تعابير وجهه التي تظل ثابتة طوال الفيلم. ألم يقل لينين أنه لن يعود بمقدوره إتمام الثورة لو أنه ظل يستمع لبيتهوفن؟ تلك هي الوسيلة المرهفة للضحية في طرق شرايين الروح الإنسانية في حياة الجلاد، عبر علاقة سرية لا يعلم بها طرفها الثاني (الكاتب) إلا مع نهاية الفيلم. 

وبينما تفشي السلطة القمعية الرهاب من أفكار الحرية باعتبارها دخيلة غربية، يفضح هذا العمل رهاب السلطة الدفين من الفن المعادل للحرية وهو يشق طُرقه الالتفافية بين الناس. فنشاهد سعي السلطة عبر وزارة الفنون لاحتواء الفنانين. يظهر هذا بحضور وزير الفنون إلى المسرح لرعاية مسرحيات كريستا ماريا. ولأن الاستبداد لطالما كان قابلاً للتصدير شأنه شأن الإيديولوجيا؛ نعثر على الممارسات السلطوية ذاتها وقد استنسختها العديد من الأنظمة العربية في تعاملها مع المثقف، خاصة مع صعود البعث الاشتراكي في سوريا والعراق، في النصف الثاني من القرن العشرين.

يحيلنا هذا الفيلم إلى اكتشاف المفارقة القديمة المتجددة في علاقة الاستبداد بالإبداع من خلال العبارة التي تلقيها إحدى شخصياته الأساسية، الكاتب ألبرت جيرسكا: “هذا النظام يدفعني إلى الجنون. لكنه في الوقت نفسه هو الذي يلهمني الكتابة”. فالممارسات الواقعية النقيضة للأدب تختمر في ذاكرة الأديب العجوز كمحرض للكتابة، الكتابة التي ستفشل أخيرًا في إنقاذ ألبرت جيرسكا الذي يُمثل انتحاره المأساوي استسلامًا احتجاجيًا للواقع الذي لم يعد صالحًا للكتابة بعد أن استنفد كل طاقاتها الخلاقة دون أن يمنحها استراحة حرية. “لن أشكو بعد الآن. في حياتي القادمة سأكون كاتبًا سعيدًا أكتب وقتما يحلو لي”، بحلمه المتواضع هذا يسير ألبرت إلى جنازته مُشيعًا بنفر قليل من الأصدقاء المقربين، الذين يبدؤون مغامرة الكتابة عنه، في تقرير عن معدلات الانتحار سيتم تهريبه لينشر في صحافة ألمانيا الغربية، فقد توقفت الحكومة الاشتراكية عن الإفصاح بمعدلات الانتحار السنوي منذ عام 1977.

أما في فيلم “باربرا3 “Barbara- فإن اختلافًا مهمًا قد حدث؛ فباربرا، الطبيبة التي أُرسلت إلى عيادة طبية متواضعة في الريف عقوبة على طلبها تأشيرة للهجرة إلى ألمانيا الغربية، تعرف أنها مراقبة، وأن زميلها في المهنة (أندريه) -الذي يعرف أنها تعرف- مكلَّف من قبل “شتازي” بكتابة التقارير عنها! هذا الانكشاف يجعل باربرا في حالة تمثيل مستمر، وهدوء مُتصنع يتجلى في المشهد الذي يفتتح به المخرج كريستيان بيتزولد الفيلم: سيدة تجلس مرتاحة على مقعد في حديقة عامة وهي تدخن. 

فيرا فولنبيرجر وزوجها كنود

إن حالة من التوتر تتفشى بصورة تبعث على الريبة في معظم منعطفات الفيلم، تتجلى في فجوات الصمت التي تتخلل الحوارات، في الجمل غير المكتملة أحيانًا، وفي صوت الرياح والأمواج المنتشر عبر العديد من المشاهد. وما يصعِّد حدّة التّوتر أكثر الغياب المتعمد للموسيقا التّصويرية. وربما كانت تلك الحالة من التوتر المتفشية عبر الفيلم دلالةً على مناخ الارتياب الذي يسود الحياة العامة في ألمانيا الشرقية، حيث ينتشر المخبرون في ثياب أناس عاديين، قد يلقون عليك تحية الصباح يوميًا، وربما كان المخبر المكلّف بمراقبتك هو من تشاركه مائدة الطعام والسرير، تمامًا كما حدث في القصة الواقعية لفيرا فولنبيرجر، التي انضمت إلى حركة السلام الألمانية الشرقية عام 1981 بتشجيع من زوجها كنود، عندما أُلقي القبض عليها وهي في طريقها إلى إحدى المظاهرات بتهمة حملها للافتة كُتب عليها عبارة روزا لوكسمبورغ: “الحرية تقاس بمدى حرية خصمك”. لاحقًا بعد سقوط الجدار تتمكن فيرا من الوصول إلى ملفها في أرشيف أمن الدولة فتكتشف أن المخبر الرئيس المكلف بمراقبتها لم يكن سوى زوجها كنود. 

بالعودة إلى فيلم “باربرا”، فإن شخصية باربرا تحيلني لتلك الهواجس التي تدونها كريستا فولف في روايتها “ما يبقى”: “لوهلة استحسنت أن أكون أول من يلاحظ بدايات الصلع في رأس السيد الشاب حتى قبل أن تلاحظها زوجته نفسها، والتي لم تكن بالطبع تنظر إليه من فوق بمثل هذا التّمعن”. فهذه الحالة من الانكشاف تخلق جوًّا من المراقبة المتبادلة بين المخبر والشخص المستهدف. يمكن ملاحظة ذلك في التوتر المتصاعد خلال أول حوار مباشر بينهما، الذي يدور داخل السيارة، حيث يلقي أندريه بجملته التي لا يمكن لباربرا تجاوزها: “هنا، الناس حساسون جدًا، يشعرون سريعًا بأنهم أقل درجة”.

سقوط جدار برلين عام 1989

بعد التاسع من نوفمبر من عام 1989 سيكتشف الألمان الشرقيون أنهم أكثر حساسية من أي وقت مضى. في تلك الليلة سيحتفل الألمان بسقوط جدار برلين، يتعانق سكان الألمانيتين عناقًا سيسفر عن قيام جمهورية ألمانيا الاتحادية، بعد ثلاثين عامًا ظلت فيها العلاقات الأسرية بين أبناء الشعب الواحد مَسرحًا للمشاحنات الخطابية بين الكرملين والكونغرس. لكن سرعان ما سيصاب غونتر غراس بخيبة أمل فيكتب: “لقد أمسى مواطنو ألمانيا الشرقية مواطنين من الدرجة الثانية في ألمانيا الموحدة”4. فما زال الجدار حتى بعد عقود على زواله إحدى بلاغات التاريخ الساخرة، والمؤلمة في الحين نفسه، وشاهدًا حيًّا في ذاكرة المكان والناس على جموح الاستعارة التي ترسمها الإيديولوجيا كوشم في الهوية. لذلك، كان على السينما -فيما يروّض الواقع الجماهير لقبول شروطه الجديدة – أن تقدم ذكراها على أطلال الحلم الاشتراكي البائد، بينما تنتشر شاحنات وأعلام “كوكاكولا” و”ماكدونالدز” في ضواحي برلين الموحدة، عاصمة ألمانيا الاتحادية. هذا ما سنشاهده في التراجيديا الكوميدية التي تدور فيلم “وداعًا لينين GoodBye, Lenin!”5 لفغانغ بيكر.

يرصد هذا العمل التحولات الاجتماعية والثقافية التي تطرأ على سكان ألمانيا الشرقية عقب سقوط جدار برلين. يقود “أليكس” أحداث الفيلم بينما ترقد أمه في غيبوبة تستمر لثمان أشهر يسقط خلالها الجدار، حين ستغزو الرأسمالية أدق التفاصيل اليومية في حياة السكّان، بدءًا من الأطعمة المعلبة والملصقات التجارية إلى ثقافة الاستهلاك التي اجتاحت الفرد الألماني بصورة دراماتيكية. لذلك كان على ابنها أن يهيئ لها جمهورية اشتراكية مصغرة، تخصها وحدها، خشية أن تتعرض الأم إلى جلطة جديدة باكتشافها أن الحُلم الاشتراكي الذي عاشت على أدبياته وأفكاره منذ الصبا قد أصبح أطلالًا. فبالنسبة للأم سيعني زوال الاشتراكية نهاية مرحلة الحُلم، بكل شقائها وأوهامها السارة، والولوج في دوامة جدل طويلة مع الواقع الجديد، الذي لم يعد قلبها الضعيف قادرًا على تحمل تحولاته.

يقوم الفيلم على كذبتين متبادلتين: كذبة الأم على أبنائها مبررةً غياب الأب بهروبه خلف امرأة أخرى إلى ألمانيا الغربية، والكذبة التي يصنعها أليكس لأمه في شكل جمهورية اشتراكية مصغرة تخصها وحدها، حيث ما يزال التلفزيون الرسمي يتغنى بنظام إريش هونيكر. ربما كانت حالة الإيهام هذه دلالة على مناخ الإيهام المستمر الذي تصنعه الإيديولوجيات المتعددة في حياة الشعوب، مهما اختلفت الشعارات وتبدلت. لكن لا بد للوهم أن ينقشع في لحظة ما، اللحظة التي تصحو فيها الأم من غيبوبتها وتقرر السير في المدينة لتكتشف التحولَ المريبَ في الحي. ثم تأتي اللحظة التي تحدق فيها الأم ذاهلةً إلى تمثال لينين المعلق بالمروحية، لندرك أن حركة التاريخ هي خصام رموز أيضًا، كما هي خصام نظريات وأفكار.

في ألمانيا، اليوم، تعيد شركة “كلَّب كولا” تقديم مشروبها للسوق من جديد، مستثمرةً الحنين إلى حقبة ألمانيا الشرقية، عندما ظهر هذا المشروب لأول مرة عام 1967 كبديل لـ “كوكا كولا” الغربي. يستثمر المخرج فغانغ بيكر حرب الرموز والدلالات هذه في مشاهد متفرقة من الفيلم. فبينما الأم على سريرها، في غرفتها ذات الطراز الشرقي، ينسدل علم كوكا كولا من وراء النافذة على إحدى البنايات المطلة. كان من البديهي لمصادفة كهذه أن تحدث في السوق، أو في الشارع مثلًا، لكن البلاغة الساخرة اقتضت تلك الهيئة التي تلمح لتسلل الرأسمالية إلى أكثر الأماكن خصوصية، البلاغة التي عادت لتتجلى بصورتها المأساوية في عبارة أريان، بعدما تعرفت على أبيها في إحدى نوباتها الليلة في مطعم “برغر كينغ”: استمتع بوجبتك… وشكرًا لاختيارك برغر كينغ!”

هوامش:

  1. ما يبقى، كريستا فولف، ترجمة بسّام حجار، دار الفرابي.
  2. https://www.imdb.com/title/tt0405094/
  3. https://www.imdb.com/title/tt2178941/
  4. ظلم الأقوى، غونتر غراس، مجموعة مترجمين.
  5. https://www.imdb.com/title/tt0301357/?ref_=nv_sr_srsg_1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة