مسقط: كم مدن سقطت قبل هذا اليوم؟!

 

“مدينة من لحم وعظم، لم تعد تستند إلى أمجادها الحربية، وإنما إلى هيبة أطلالها”.

غابرييل غارسيا ماركيز، في وصف مدينة قرطاجنة (كارتاخينا).

صباح الإثنين، الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2021: لا كاميرا معي لكي ألتقط أنين الألوان في اشتعال الشمس. أسير على هدى الضوء الباهر الذي يبني عيني ويهدمها في مسقط، أو في الطريق إليها، على شارع السلطان قابوس. أسير لأفضَّ اشتباكاً بيني وبين ذكرياتي في المكان. أتصفح المدينة وهي تصفح شيئاً فشيئاً عن بارحتها الضارية، بلا كلمات زائدة لا تفهمها الطبيعة عما يمكن أن تعنيه العدالة. لا كاميرا معي، لكنني أستطيع تعلم الكتابة الآن. أكتب فوق كل مهمل ومهجور، جملاً عابرة وأنساها. أكتب الآن لا بصفتي شاهداً ولا مشهوداً، بل أنا الغائب، أنا الضمير الغائب في سطور أرسمها على الرمل فيمحوها المدُّ فوق شطآن الحسرة. أتنهد كأن الأمواج صفحت عني لتوها وأنقذت كتابتي من زور محتمل.

ها أنا أزور مدينتي التي تركتها لأقل من أسبوع نهباً للإشاعة التي صارت خبراً، ثم عيناً فأثر. وهي (المدينة) على ما هي عليه من حاضر حصين، ينأى إلى ركن سرّي لكي يكتب سيرنا الشخصية بالنيابة عنا. يكتبها لتكتبنا البحرُ المصاب بالهذيان فيما يمحو قلاعاً رملية وأسماء شخوص وأماكن أخرى دوّنها الغرباء على الشاطئ، فنحاول من بعده أن نعيد المكان إلى دروبه المعتادة في خارطة عواطفنا الممجوجة، لتستأنف الحياة شؤونها المضارعة والمملة في غفلة من البحر، ولتواصل هذه المدينة المرتبة بخطورة عمرها في أعمارنا، كما نواصل أعمارنا في عمرها.

حنين غامض يرصد الفخاخ لقلوب مكتظة، أعين تسقط على نحو عشوائي في صور عشوائية... هنا أمشي كمن يتذكر أو يتهجى كلمات أغنية صيفية، وهناك أطير، كمن ينسى، فوق مرتفعات الشمس. كأني أحمل الآن نفسي على ولادتها من جديد وأسقط أمام ذهول المرضعات؛ لا لشيء، إلا لأجرب مرة أخرى طفولة المشي تحت شمس قديمة يحملها المارة فوق أكتافهم كالسلال على شاطئ القرم، وأراها تفترش البحر وتطفو في مأمن من ظلال الأبنية العملاقة التي تنقضُّ على كل ساكن ومتحرك. إنني أخترع سياحتي الجديدة في مكان يتنزه الآن في نفسه، يُعرّف أطرافه على بعضها من جديد ويهنؤوها بالسلامة.

تنشر طيور مهاجرة أجنحتها كالغسيل المنزلي تحت سماء صافية. يتكاثف الهواء المملح فوق البشرة. ينقرض صدى لصرخة طفل عبر الشاطئ في صرخة طائر موسمي مسعور يرف تحت سماء مخيلتي. وفي الظل تجلس سيدة أجنبية بملامح كولونيالية تداعب كلبها وتهدهده. بينما يجلس الأوائل على مرتفع غير بعيد محدقين في المأساة التي يبتسم لها المكان بكل برود. يتحسس الناس بقاياهم. يتأكدون من ترتيب ملامحهم في الصور الذاتية، ويبتعدون عن المرآة قبل أن يصابوا بوساوس قهرية تذكرهم بنقص ما أو بمقعد شاغر في القلب. ينعتقون بالمشي الحر من أعباء الليلة الماضية، ليلة الإعصار، التي انتحرت على اليابسة كمزحة ثقيلة ألقتها الأمواج على صبي طائش.

في كل زقاق يخترق مطرح يجلس تاريخ بلا مأوى ومجد غير مكتوب لباعة السمك المتجولين. تخلو المدينة كرئة تتهيّأُ لتعبَّ نفسها بالهواء. تستعيد صوراً من تاريخها المأهول بالغزاة والقراصنة: “كم من القراصنة سفحوا أمجادهم على شواطئك المكتظة بنزيف الغربان”؟ (سيف الرحبي). أتذكر في هدنتها المريبة مدناً تسقط إثر أخرى في تاريخ مشابه فوق جغرافيا مشابهة، فأحتمي بيقظة الواقع من جنوح الخيال وأحلام اليقظة. كأن الأشياء من حولي وهي سادرة في خفقانها اليومي تؤسس لصرخة موقوتة. لقد سقطت مدن كثيرة من قبل، أعي ذلك جيداً بأقل خبرة ممكنة، لكنني أسوِّف الهنيهة الثقيلة وأواصل المشي كمن يسرد المكان بقدميه، متدبراً مشاعري وحدي بمعزل عن الآخرين.

ولكن لماذا يتكرر هذا الكابوس؟ لم تمضِ سوى أشهر قليلة منذ أن شاهدت مسقط وهي تُعزل في الليل، تُكمم مداخلها ومخارجها بسيارات الشرطة. كان الوباء يتفشى، ويعزل المعزولين في ليلهم. والكمامات تتطاير فوق الشوارع كنُذر حرب توزعها على السكان طائرات معادية. كانت الريبة تسم الأشياء بسماتها وتفضح اليقين.

لا ينهى البحر عن شيء ولا يأمر في هذه الساعات، فلا مزيد لديه من الدروس أو الخُطب، ولتتكفل التجربة وحدها بإعادة تدوير الأساليب القديمة للعبرة. إنه يطمئن الآن إلى ملامحه في مرآة جسده، عائداً إلى أسلوبه الأول، عائداً إلى الإغراء. فهل عليَّ، مرة أخرى، أن أصدق هذه الزرقة التي لا تتمدد إلا لتختنق فينا على حين غِرة؟ أي رجل وامرأة بوسعهما بعدُ أن يجسرا تلك المسافة بين البحر والصحراء، وأن يعيدا للبَريّ داخل كل منا ثقته بالماء؟

دعونا نرجئ قليلا سؤالنا عن ذلك المستحيل القديم في الجمع بين الماء والنار إلى أن نعثر على شبر أمان من جهة الماء. هو عقدتنا العاطفية التالية، عقدة الناجي من الغرق الأكيد: كيف نؤالف بين التراب والماء دون أن تختلج فينا بقية العناصر، ودون أن يرتعد الطينيُّ من البلل؟

ولكن يبدو بأنني، أنا الآخر، أطمئن الآن إلى نفسي حين أشمسها كما يفعل البليل الناجي من الغرق، وأعود إلى مسقط لأصدق البحر من جديد!

تنخر الأمواج خاصرة المدينة دون أن تطيش نبأة منها. تداري أنينها بالكتمان، وتستقبل سكانها المهاجرين إليها تحت وخز النجوم. تفتح باب الطوارئ للقادمين من زحام حياتهم الداخلية ظمأً لأي فوضى خلاقة تقمع الحديث مع النفس اللحوحة، وتدربُ أعزب القلب منا على نوع جديد من الوحدة، الوحدة التي تهزم الشوق إلى الأسرة والقبيلة.


في مسقط كانت الشمسُ تحتضر لتترك المدينة تشتعل في أعراسها اليومية. وفي مسقط كنا “نستأصل العائلة ونقيم الصداقة” كما يقول أدونيس.

وفي مسقط نتحلق مع الأصدقاء لنوسع الليل ونغافل البحر.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


نُشرت هذه المقالة في مجلة الفلق بتاريخ 26 أكتوبر 2021




تعليقات

المشاركات الشائعة