سعدي يوسف... ضيفاً ومُضيفاً

 



إن توديع شاعرٍ لهو توديعٌ للزمن المارق من تحت أحذية المشاة على الأرصفة، والعابر حافياً فوق رمش النائم، بلا نأمة، كمن يسرق الكحل من العين، كما في المثل العربي السائر. فالزمن، بساعاته المجردة وهي تنزف من ساعة اليد، بات القلق اليومي للشاعر كما هو بالنسبة للإنسان العادي في حياتنا المعاصرة، حيث الساعات المنصوبة على كل الوجهات والواجهات؛ في الهاتف، في غرفة النوم، في قاعة الامتحان، وفي برج الجامعة. لذلك؛ فقد آثر سعدي يوسف أن يُبطء دقات الوقت في قلبه المثخن بالتصدع، محولاً شريط الزمن المتصل إلى هنيهات بريئة المعالم والمقتنيات، وقد يعتريها غبش من فرط السهر والإرهاق، فلا سبيل إلى الحياة إلا في شراهة اللحظة التي تنادي بالغلام نحو المياه العميقة، ما دامت محاولة الاقتصاد في العمر والمشاريعُ والخططُ ضرباً من الخيال والغطرسة، قد تذكر أحياناً برجال أشقياء حاولوا الإمساك بالمستقبل، لينكل بهم التاريخ على مرأى من العصر.

كم تلكأتُ في الكتابة عن سعدي يوسف (1934-2021)، منذ أن أُشيع عن تردي وضعه الصحي قبل أشهر، وما تلا ذلك من إشاعات استبقتْ رحيله المُتدرج. لكن سعدي مات أخيراً، وأما أنا فما زلتُ أتردد... حتى شروعي بتدوين هذه السطور، فلستُ من هواةِ المناسبات السعيدة والحزينة على حد سواء، أو بالأحرى لا أملك موهبة كتابتها (أو هكذا يحلو لي أن أختلق الأعذار!). لكن خلخلة في النفس تحدوني في هذه الساعات ليس للتأبين، بل لتسديد دين عاطفي لذلك الأثر الخفي الذي خلفته الظلال العميقة لقصيدة سعدي في قصيدتي، محاولاً قدر ما في اللغة من صبر، أن أُحيّد فعل الماضي الناقص “كان” عن مهمته المعهودة في مناسبات كهذه. فهل تأذن اللغة لي باستقبال الغائبِ لا بتوديعه؟

دائماً ما ألجأ للقول بأن إدراكي للعالم الخارجي في ذلك الحيز المحدود الذي لا يتحاوز البيت والمدرسة، قد مرَّ بمرحلتين حاسمتين: مرحلة التلفزيون ضيقة الأفق، والتي استمرت لقرابة الخمسة عشر عاماً من تكويني البيتي إلى أن دخلت “الشبكة العنكبوتية” (كان هذا المصطلح رائجاً بكثرة قبل سنوات) إلى بيتنا متأخرة نسبياً عن حال مع بقية الأقران، ليستأنف دخولها مرحلة جديدة من محاولاتي الشقية لاحتواء العالم واستدراجه إلى البيت الريفي الصغير، مُنقباً في تلك الدهاليز الإليكترونية الخفية عن أي شيء قد يفضي إلى شيء ما. في تلك المرحلة، مرحلة الإنترنت، تعرفت إلى سعدي يوسف من خلال فيلم “الأخضر بن يوسف” الذي عثرتُ عليه صدفة ضمن توصيات “يوتيوب”. لم يكن اسمه غريباً علي، إذ سبق أن تعثرت به في الكتب والدوريات التي كانت متاحة لدي. اطلعتُ على بعض من نصوصه في الأرشيف الإلكتروني لمجلة الآداب البيروتية بينما كنت منخرطاً وجدانياً في اقتفاء آثار الثورة الفلسطينية وما تبقى من حطام سفينتها في عرض البحر، وهناك اهتديت إلى سعدي يوسف فلسطينياً حتى عروق نخيل البصرة.

لم آلف شعره لأول مرة، ربما لعدم اعتيادي على “شعرية اليومي” التي تطعم قصيدة سعدي على نحو غير مسبوق فيما قرأت من تجارب آن ذاك، إلا أنني تعلقت بشذرات من شعره الأول، وتقلدتُها كالأناشيد: أذكر أنني في آخر صيف مدرسي لي كنتُ أتسلق جدار المدرسة هارباً من نهار مدرسي بليد برفقة صديق آخر، وما إن أصبحت على كتف الجدار، وكان الخوف ينتابني من عيون المعلمين الوشيكة، تذكرتُ سعدي:

“تحت الأسوار ولدنا

فوق الأسوار نموت”!

فقفزت تلك القفزة التي لم تنتهِ حتى الآن، من ضيق المدرسة إلى سعة الوادي المتاخم لسورها. وسأظل أردد ذلك البيت لسعدي في هروبات لاحقة.

لكنني سأقرأ سعدي على نحو أكثر عمقاً في سنتي الجامعية الأولى تزامناً مع قراءتي لأمجد ناصر، في الوقت الذي كانت فيه جملتي الشعرية بأمس الحاجة لتخفيف نبرتها المحتبسة داخل أصوات عدد من رواد الشعر الحر الذين كنتُ وما أزال ربيب أصواتهم، كبدر شاكر السياب وخليل حاوي، وبالطبع محمود درويش. في تلك المرحلة أعجبتُ بطرائق توظيف سعدي للغة بشكل مِطواع؛ الكلمات الملتقطة من الشارع بسلاسة، إلا أنها مستعدة لمباغتة القارئ بعربية قحة، بين الحين والحين، تذكره بنبر الشعر القديم. فريداً وجديداً ظل صوته الوحيد، لا يتقمص أحداً، و”إذا ما أراد أن يتشبه، فبالشعر العربي الكلاسيكي، أو بالسيّاب دون غيره”1، كما كتب عنه الشاعر والناقد العراقي الراحل فوزي كريم، تحت عنوان “الراية القومية، سعدي يوسف”.

نفَّرني إسرافه في كتابة الشعر، إذ كان يكتب وينشر القصائد بشكل اليومي (هذا ما نستنتجه من التواريخ التي يُذيّل بها كل قصيدة)، ولعل هذا ما أصاب قصيدته بالتكرار والهبوط من ذروة الشعر إلى النثر اليومي في أحايين كثيرة. كنت أتساءل: ألا يتعب؟ ألا يستريح من اللغة قليلاً؟ قد يكون سعدي من أولئك الذين يعسر عليهم أن يلتمسوا ذواتهم خارج حدود اللغة، ومع ذلك فهو لا يتورع عن توظيف اللغة في سياقات لا ذاتية، بل قد تشي أحياناً بقطيعة رعناء مع الذات لصالح الموضوع، فلا يمكن أن نُحيد آثار التزامه السياسي بينما نقرأ شعره، حيث الوردة الحمراء خائنة إذا لم تكن تومئ إلى “الراية الحمراء”، يقول فوزي كريم: “إنها دربة قراءة القصيدة كنص مُبيّت المعاني السياسية مُسبقاً، وموجّه. والقارئ بفعل هذه الدربة لا يعرف أنه يقرأ الشعر بطريقة شائهة”.

لا ندري حقاً إن كان عضو من أعضائه قد خانه، أم أن صبره قد نفد، لكننا في الحالين نصدِّقه ونصدق غيابه، ونشاهده كيف يغادر الحياة بلا مشيعين في عزِّ الوباء، يغادرها مقيماً في اللغة، هو الذي أنف الإقامة كما ألِف المنفى منذ أن خبره لأول مرة. وفي الوقت الذي يجهر فيه الموت بغياب الشاعر ورفع أدواته عن اللغة، تُصبح لغته مزاراً لحجاج الحنين الباحثين عن ظِلالهم في أزمنة وأمكنة كانوا غائبين عنها أو مُغيَّبين، فالحنين إلى شاعر غائب هو حنين إلى لغة غائبة… الحنين؟ لا بدَّ أن “الأخضر بن يوسف” سيستوقفني هنا، قائلاً: “لقد اتَّخذتُ الحنينَ عدواً”! ألذا لا نصادِفُه إلا مُرتحلاً بين الحواضِر، ولا راكِناً إلى مدينة إلا في ثيابِ الزيارة؟ أزعم أنه قد أدرك منذ البداية حاجة الحنين إلى مكان ملموسٍ تَرعى عليه الذاكرة، مهما نأى الخيالُ بالشاعر عن تضاريسِ الأرض، فآثر أن يقطع تلك الصلة بين الحنين والمكان بأن يحيا على أُهبة سفر دائم، وأن يُقطِّع برهة من الدهر على شكل هنيهات شهية ومطهية على عجل. وإن كان لا بد للنص من زمان فهو رجع الطرف من شرفة في قطار، وإن كان لا بد للنص من مكان فهو القطار نفسه الخارج من البصرة إلى أقطار عربية شتى ومنها إلى مدن العالم الفسيح، وانتهاءً بمستشفى في العاصمة البريطانية، لندن، مردداً مع شيخه الكبير، أبو الطيب المتنبي: “خُلقتُ ألوفاً”. فهو ضيف المكان والزائر الدائم، كما هو مضيف زمانه في بهاء القصيدة.

لم يكن سعدي يوسف شاعراً معنياً بالموت بقدر ما كان معنياً بالزمن، لكأن الموت قد تخلى عن أحجيته الأزلية منذ أن فقد الدم لمعانه بعدما أصبح مادة يومية في مسلسل تلفزيوني ملون. لقد أمات الشاعر الموت، حتى صدقنا ما كان بالأمس القريب إحدى مبالغات المتنبي:

تمرستُ بالآفــات حتــى تركتها

            تقول: “أمات الموتُ أم ذعر الذعر؟”

وربما لم يكن موت الموت إلا ثمرة تلك المفاوضات الوجودية التي خاضها الشاعر القديم، حين استضافَ موته الشخصي استضافة القربى في قصيدته، فحاوره وناشده.

ظل سعدي يوسف دائراً بين رواد المقهى الثقافي فحسب بوصفه “واحداً من كبار رواد القصيدة العربية الحديثة” كما جاء في الخطب التأبينية التي دبُجت عشية رحيله. لكننا لم نجد الاحتفاء الجدير بشعره، الذي هو حتماً لائق بالوصف السابق عن جدارة منحوتة بالجهد والتجريب، مع ركون أقل إلى الموهبة. كان شعره هو المتواري في جُنَّازه الذي اشتبك فيه المثقفون حول مواقف الشاعر السياسية ونقعِ الجدل الذي أثاره. بينما كانت مزيتنا، نحن المتأخرين، تكمن في كوننا متأخرين، فلم نشتبك في ضغائن “الكبار”، فلنا ضغائننا الجديدة، ربما؟

أهذه دعوة صريحة إلى “قطبية” جديدة في الشعر العربي؟ فليكن هذا الظن صحيحاً. ألم نسأم من قطبية “قصيدة النثر” و”الشعر الموزون”، التي أسفرت عن ظهور “ميليشيات” تدَّعي كتابة الشعر، سواءً بفضيلة الوزن، أو بفضيلة “الحرية” عندما يتعلق الأمر بقصيدة النثر؟ أما آن للشعر العربي أن ينهض من ركام الإيديولوجيا الفنية (المستوردة) إلى انحيازات جمالية أشد عمقاً وحساسية، تنحاز للأسماء الشعرية مباشرةً، للتجارب ذاتها، فحبذا أن يُنسب الشاعر إلى شاعر أو شعراء آخرين، بدلاً من أن يُنسب إلى نوع أو شكل، ما أدى إلى استغراق في “النقد الطائفي” الذي يدمن رد النص نحو مدارس شكلية لم يعد لها أي اعتبار فنيِّ، لكنه عاجز في الوقت نفسه عن ردها لينابيع ضاقت بالريادة وبمصطلحات السبق الفني تحت أقلام الأكاديميين دون أن تجد هامشاً حياً لتلاوة شعرها كما يستحق خارج القاعات المخبرية.

كان سعدي يوسف آخر ضحايا النقد الذي اختصر مفهوم “التأثير” بمحددات مظهرية، يُذكرني كثيراً بأنسي الحاج، الذي ظل هو الآخر حبيس مقهى ثقافي لا يُعرِّفه إلا بمجلة شعر وبوصفه أهم رواد قصيدة النثر. فهل لأوسمة السبق والتأسيس والريادة معنى فني عندما يرحل الشاعر بلا أدنى قصيدة في الذاكرة الجمعية؟ أم أن الشعر يحرن أمام الجماهير، لأنه نخبوي بطبعه؟ لم أعد أرضى بهذا القول السهل ما دامت اللغة هي ابنة البيت والشارع قبل أن تنسب إلى المعاجم. غير أن الزمن هذا ليس زمن الناقد، بل زمن القارئ، فهو ناقد النقد وصاحب السلطة الأخيرة، وهو الذي بوسعه أن يحرر شعراءه من حراسهم وأوهامهم، لا أن يوكلهم بخوض معاركه نيابة عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. فوزي كريم، شاعر المتاهة وشاعر الراية؛ الشعر وجذور الكراهية.
نُشر هذا المقال في مجلة الفلق بتاريخ 5 يوليو 2021:

تعليقات

المشاركات الشائعة