بحثاً عن الفلسطيني في اللغة

 


أزالوا أعمدة الخيمة، رافعين مكانها أربعة جدران من الطوب المملوء، مطلية بالأزرق، تحمل شعار الأمم المتحدة. ثم سقفوها بصفائح الزينكو. وامتلكوا من الجرأة على الحقيقة ما سيعينهم على دقِّ الجدار بمسمار سيعلقون عليه صورة الشهيد. وامتلكوا من الجرأة على الأمل ما سيعينهم على زراعة برتقالة في الفناء، أو حفر بئر ارتوازي. 
على هذا النحو سيغدو الخروج الملحميُّ للفلسطيني من الجغرافيا، أو طرده منها بصورة أدقَّ، مؤكداً، حين يتحول إلى مقيم في اللامكان، حاملاً معه صفة “لاجئ” في مطارات العالم الفسيح. لكنه، ريثما تتم أسطوريَّته حروبها على واقعيته، سيكون قادرا، ببراعة تراجيدية نادرة عبر التاريخ، على تقمص سطرٍ شعري هاربٍ من نهايات القرن الثامن عشر، لهولدرلين، حين يقول: “غنيٌّ بالمزايا الإنسان، لكنه يحيا شعريا على الأرض”. هكذا إذن، يرسم الفلسطيني إقامته على الأرض السليبة، إقامة شعرية تقوم على اللغة الطارئة التي أفرزتها النكبة، حين لن يكون في وسعنا التعرف على هذا الفلسطيني إلا بصفته “الكائن التاريخي” لدى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي يرى بأن اللغة هي التي تضمن للإنسان أن يحيا بوصفه كائنا تاريخيا (Historical)(1). وبهذه الطريقة، عبر اللغة وحدها، سيؤسس الفلسطيني، الغائبُ عن الأرض الحاضرُ في لغتها، حضوره الأسطوري بيننا.

عندما عثر الروائيُّ على الفلسطيني مصلوبا على صخرته، عثر معه على اللغة، بعد أن كان يشهد انتحارها كل نهار على الورق، وفي الكلام اليومي المراق على طاولات المقاهي. هنا سيقع تبادل الأدوار التاريخي، بين الروائيِّ وسكّان روايته الأصليين، أولئك المحجوبين بغبار الشتات ودخان الخرافة، حين سيولمون له اللغة بسخاء المهزومين المعهود، ليرمم الروائي بها دثار معجمه المكرور، ويشحذ استعارته جيدا أمام انهزام الواقع الذي يتحول شيئا فشيئا إلى خرسانة إسمنتية صمَّاء. هكذا سيكتب الروائي عن الفلسطينيين بلغة هم من اخترعها، لا بلغته هو. لذلك، كان عليه أن يخضع لسحرهم، دون أن ينفق المزيد من السنوات ليتسنى له التعرف عليهم كما ينبغي. فلم يجد ما يكفي من الوقت ليقلِّدهم أسماءهم الحقيقية حين أعلنهم أبطالا لروايته. كان مستعجلا لتحويلهم إلى أبطال؛ فقط لأنهم -ويا للمفارقة- كانوا ضحايا روايته اليوميين في شريط النبأ العاجل على شاشات الأخبار. أما نحن الشهود، هواة الملاحم التراجيدية، والممسوسون لحد التماهي معهم وبينهم أحيانا، فلم يتسنَ لنا أن نعرف الفلسطينيين أفرادا، بل جماعة أو جماعات. كانوا صيغة جمع نادرة في حكايتنا العربية المزدحمة بالجموع. أكانوا في الداخل أم في الخارج، كانت صيغة الجمع تطاردهم وتَتَبعهم. ففي خضم موتهم الجماعي على شاشات التلفزة، ننسى أنهم يعيشون أفرادا ينحدرون من مراكز وطبقات متفاوتة، يجمعهم الجرح والحق على صخرة واحدة... وربما كانت صيغة الجمع التي رميناهم بها أولى بوادر قسوة المحب على المحبوب المتعطش لإنسانيته في أن يحيا فردا، وفي أن “يستشهد” كفرد أيضاً إذا ما استحالت الحياة.


من رماد الهزيمة وُلدتِ اللغة الفلسطينية خرساء، نائية عن صبّارها. وتبلورت مع السنوات الأولى للنكبة لغةَ صمت قهري، ذهبت خلالها عبارة ضابط جيش الإنقاذ العراقي خلخالا وحشيا في وديان صمتها السحيقة التي ذبح فيها الفلسطينيون عشية النكبة: “ماكو أوامر”. تطلَّب الأمر أكثر من عقد ونصف لبناء القاموس الفلسطيني، منذ اختراع مصطلح “النكبة” على يد قسطنطين زريق، نائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت آن ذاك، الذي أطلق كتابه تحت عنوان “معنى النكبة”، في آب/ أغسطس 1948. كانت الكلمة تنتظر الفعل لكي تحدث، حتى يكون للقاموس الفلسطيني أن يمارس أفعاله المضارعة على الأرض. تماما كما فعل “أطفال الحجارة” عام 1987، عندما فرضوا على قاموس أوكسفورد إدراج مصطلح “الانتفاضة” (Intifada) داخل صفحاته. فكان أن ظهر على الساحة، في الأول من كانون الثاني/ يناير من عام 1965، تنظيم فدائي تابع لحركة فتح، عُرف بمسمى “قوات العاصفة”، والذي بشر ببدء الثورة الشعبية وانطلاق المرحلة الأبرز في التجربة النضالية الفلسطينية، ألا وهي مرحلة الكفاح المسلح، حيث بدأت معها السردية الفلسطينية تقتبس ملامحها من ملامح الفدائيين المتسللين من غور الأردن للقيام بعمليات فدائية داخل الأرض المحتلة، تاركين خلفهم بطاقات زيارة باللغتين العربية والعبرية في أماكن تنفيذ عملياتهم. وكان لا بد أن يرافق هذا المدُّ الثوري صعود حركة شعرية جديدة كانت قد بدأت بالظهور داخل الأرض المحتلة من خلال جيل صاعدٍ من الشعراءِ الشباب سيطلق عليهم غسَّان كنفاني لقبَ “شعراء المقاومة”. إذ انتبه الفلسطينيون، من حيث لا أحد يدري، إلى أن هولدرلين كان قد قال يوما: “ما يدومُ يؤسسه الشعراء”. وهناك الكثير مما يجب أن يُعترف به من الفضل، والمسؤولية أيضا، اللذين يدين بهما تطور القصيدة العربية لتلك المرحلة من عمر النضال الفلسطيني.


لكن عقودا سبعة هائجة منذ اندلاع الجرح الفلسطيني، أعادت ترتيب المشهد من جديد، منذ لم يعد النبأ العاجلُ عاجلا في شريط الأخبار. عندما وقَعَتْ اللغةُ الفلسطينيةُ في مستنقع القاموس الأمريكي، تحديدا عبر كلمة “الإرهاب” (Terrorism)، المعرّفة أمريكيا تعريفا مقبولا مبدئيا، ولا يثير أي التباسات أخلاقية، إذ الإرهاب هو: “استخدام العنف -غير القانوني- (أو التهديد به) بأشكاله المختلفة بغية تحقيق هدف سياسي معين”(2). هكذا خرج ياسر عرفات في مؤتمر صحفي ليعلن بإنجليزية مرتبكة عن نبذ منظمة التحرير الفلسطينية “كليا وبشكل مطلق جميع أشكال الإرهاب”(3)، مقابل اعتراف الولايات المتحدة به وبالمنظمة. بعد سنوات من ذلك يجد الفلسطيني نفسه يراقب بذهول المتفرج انسحابه الدراماتيكي عن لغته. فبالنسبة إليه لم يبدأ القرن الواحد والعشرون إلا بفشل فادح في اللغة التي كان دمه المعجون بلحمه وقودا لها طوال ستة عقود من الصراع. فكان 13 من سبتمبر من عام 1993 إيذانا بموت اللغة الفلسطينية أو استسلامها لشكل آخر من التعبير: الصمت. كان البيت الأبيض مسرح الحدث، عندما وَقَّعتْ منظمة التحرير الفلسطينية بعد سلسلة من المباحثات السرية في مدينة أوسلو النرويجية اتفاقية سلام مع إسرائيل، تلتها في العام اللاحق اتفاقية غزة- أريحا. أدرك المراقبون من الفلسطينيين أنفسهم أن الدبلوماسية التي تغنت بها القيادة الفلسطينية لن تسفر إلا عن شلل في البلاغة الفلسطينية. أعلن المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني، وكتب بعد اطلاعه على مبادئ اتفاقية أوسلو: “منظمة التحرير الفلسطينية حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة. إنه وهن قيادة منظمة التحرير مقابل دهاء إسرائيل”(4). لم يتطلب الأمر عناءً من المخيلة لتخيل شلل اللغة الفلسطينية، عندما كانت كاميرا المصور ترصد أجزاء الثانية التي ظلت فيها يمنى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات معلقة في الهواء قبل أن يمد إسحاق رابين يده لمصافحته، في مشهد رمزي حرص الإسرائيليون على دسه بين ثنايا النص. مرة أخرى، كانت عدسة المصور أدق من عدسة القناص وهي تفضح للعالم مآل عملية السلام عام 2000، وذلك من خلال رصدها للمسافة الجسدية بين عرفات وكلينتون من جهة، وكلينتون وبراك من جهة أخرى في كامب ديفيد، لكن سؤالا يبقى عالقا: هل غفِل “الختيار” الناجي بمحض المصادفة وحدها ربما من الغارات الإسرائيلية في بيروت... أسأل: هل غفل عن حقيقة أن الكلاشنكوف لم يكن في التجربة النضالية الفلسطينية مجرد أداة عسكرية فقط، بل أداة بلاغية أيضا، بحيث لا يمكن للسردية الفلسطينية أن تتخلى عنه إلا لتشهر انتحارها في كتب التاريخ؟ في حين أشرف الزعيم الفلسطيني بنفسه من خلال تشبثه بالسلطة على أن يكون بهيئته المعهودة (الكوفية والبدلة الكاكية)، جزءاً عضوياً من اللغة الفلسطينية، إذ تمكن العالم أخيرا، عام 1974، من التعرف على صوت فلسطين من خلال صوته فلسطيني، عندما أرتقى منصة الأمم المتحدة، مخاطبا شعوب العالم كلها، ومرددا ثلاثاً عبارته الشهيرة التي زوده بها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: “فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”!(5)
 لم يكن من العالم الفقير للحيلة سوى أن يقابل خطاب الثائر القادم من فلسطين “بغصن الزيتون وببندقية الثائر” بعاصفة من التصفيق استمرت لدقائق، اقتحم على إثرها الزيتونُ ميدان اللغة الجديدة، وموائدها أيضا، التي يحضر الزيتون فيها كثيرا، مستوردا من إسبانيا وإيطاليا وتونس، لكننا ما إن نرفع حبة الزيتون إلى أفواهنا إلا ونتذكر أن الزيتون كان مذ عرفناه كلمة فلسطينية، اختراع فلسطيني... ألا يمكن لهذا الكلام أن يزحف بنا نحو تخوم الإجابة على تساؤل خليل في رواية “باب الشمس”: لماذا يكره الإسرائيليون الزيتون؟ “غرسوا أشجار السرو وسط حقل الزيتون في عين حوض، فضمرت أشجار الزيتون وماتت أمام السرو الذي ابتلعها”(6).

لا يقتلع الإسرائيليون الزيتون من الأرض فحسب، بل يقتلعونه من النص الشِّعري أيضا، كما يقتلعون أي مفردة فلسطينية من النص. بل تجيّر إسرائيل آلتها الاستعارية، المتفوقة على غرار آلتها العسكرية، لحرمان الفلسطيني من أي مسحة إنسانية في تراكيب يومية باتت مألوفة في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، من قبيل: “استئصال شبكات الإرهاب”، “مهاجمة أوكار الإرهابيين”، “تدمير البنية التحتية للإرهابيين”. فهذه الحرب هي حرب استعارات أيضا، تذكر بما قاله عالم اللسانيات الأمريكي جورج لايكوف في سياق حرب الخليج: “لم تدخل الإدارة الأمريكية الحرب على العراق بالسلاح فحسب، بل دخلتها أيضاً بترسانة استعارية “(7).

واليوم، تدخل اللغة الفلسطينية حقبتها “التطبيعية”، لنستسلم من التفتيش عن الفلسطيني في الخرائط والمخيمات والمهاجر ونكتفي بالبحث عنه في اللغة، لغة هو من نحتها بأظافر مخضبة بالدماء، ومعجم تطرده وسائل الإعلام العربية كل يوم، حاذفةً كلمة “احتلال” من قواميسها، ومستبدلة “القتيل” بـ”الشهيد”.

غير أن البلاغة الفلسطينية لم تكن دائما بلاغة كلام، بل بلاغة صمت أيضا، منذ أن رددت الصحراء الكويتية صدى سؤال غسان كنفاني في روايته الشهيرة “رجال في الشمس”: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟”(8). فحين تخون الممارسة الكلمة يصبح الكلام عبئاً، هذا ما قد يفسر الصمت الحائر للشاب الفلسطيني، ذي الثمانية عشر عاماً، صبحي أبو خليفة، الذي واجه به الجنود والصحفيين الإسرائيليين بعد طعنه لجندي إسرائيلي في أكتوبر من عام 2015. إنها بلاغة الصمت الفلسطيني، كما يصفها إلياس خوري، حين علقَّ على هبة السكاكين قائلا: “الجيل الفلسطيني الجديد يذهب إلى مواجهة لا لغة لها في سياقات هبة السكاكين. هذا الجيل ليس يائسا من الحياة، أو من النضال، لكنه يائس من اللغة؛ فاكتشف بلاغة الصمت وأسراره”(9).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

  1. إنشاد المنادى- قراءة في شعر هولدرلين وتراكل، مارتن هيدجر، ترجمة بسَّام حجَّار، المركز الثقافي العربي.
  2. الموسوعة السياسية، المجلّد الأول، د. عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 153.
  3. ياسر عرفات، من مؤتمر صحفي عقد بجنيف، توضيحا لخطابه السابق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، 14 كانون الأول/ ديسمبر 1988.
  4. غزة- أريحا.. سلام أمريكي، إدوارد سعيد، دار المستقبل العربي.
  5. خطاب ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13/11/1974.
  6. باب الشمس، إلياس خوري، دار الآداب، ص 197.
  7. حرب الخليج أو الاستعارات التي تقتل، جورج لايكوف، توبقال، ص5.
  8. رجال في الشمس، غسان كنفاني.
  9. بلاغة الصمت الفلسطيني، إلياس خوري، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
نُشرت هذه المقالة في مجلة الفلق بتاريخ 30 سبتمبر 2020:

تعليقات

المشاركات الشائعة