فلسطين البشارة



من الخارج بدا المشهد يومياً في بادئ الأمر، غير مسترعٍ لنخوة الضمير العربي المعتاد دوماً على بلاغة الارتجال المتلعثم أمام فجور الحاضر، ولا يكلّف كتبة الصحافة اليومية مشقة التنقيب عن دلالات جديدة ليوميات قديمة في القاموس الدلالي الفلسطيني، فالإطارات تحترق منذ 73 عاماً على شوارع المدن الفلسطينية، من الماء للماء، والحجارة تطوِّح في الأفق على مدار أيام السنة حتى يحسبها الغريب طائراً وطنياً لا يهاجر سماء الوطن. رتيباً كان المشهد لشدة ما هو أليف وسافر الوضوح، ولشدة ما بات الدم الفلسطيني مألوفاً على شاشات الإعلام كجملة اعتراضية بين خبرين عاجلين.


 أما من الداخل فلم يكن الفلسطيني بحاجة إلى مناسبة ليطمئن على طراوة الجرح، تارة بتجريب صوته من جديد في برية تتسع، وأخرى بالصمت المتداعي كجبل محموم، مرتحلاً بين ثنائية الصوت والصمت، لا لشيء، بل لكسر روتين الموت البطيء، وتمرين أعضائه على مهامها الحيوية. لم يكن بحاجة إلى مناسبة، فكل ساعة تنقص من حياته أمام حاجز إسرائيلي هي مناسبة سانحة، ليست للشتيمة فحسب، بل لطهو القهر اليومي على نار هادئة، وكل زيتونة تُقتلع ليرفع مكانها جدار استيطاني آخر هي حدث بحد ذاته، وإن فازت به عدسة القناص قبل عدسة المصور. لكن الفلسطيني سيظل يواري خوفاً مكتوماً من التكيف، من إدمان الوقوف الطويل على قدم واحدة فوق جغرافيا مزقتها الجرافات والأسلاك فأصبحت مختبراً مفتوحاً لمدى الصبر الإنساني، خائفاً من تحول الشروط التعجيزية للحياة تحت الاحتلال إلى شروط بديهية، قد يتناسى باعتيادها التفتيش عن إجابة واضحة على سؤاله المبهم: كيف ابتدأ الأمر؟


لم يختر أحد الزمان والمكان لبداية هذا الفصل الجديد من الرواية الفلسطينية، بعد أن ظن المتفرجون بأن الستار قد أسدل على أطول النهايات في التاريخ الإنساني المعاصر. مرة أخرى عاد الفلسطينيون إلى أنفسهم في طريق عودتهم إلى أرض الوطن، معرجين على صورهم في حلك الدم المتخثر من أثر الزمن والشمس كمرايا مكشوطة على الواجهات. عادوا بعد أن جرّبوا في منفاهم المحلي الضيق كل أصناف المهن والحِرف اليدوية، فاكتشفوا بموهبة البديهة أنهم غير صالحين- إلى حين غير معلوم- إلا لاحتراف الأمل وتعميمه، حتى لو كان ذلك الأمل مجرد احتيال ماكر على تقشف الحاضر من أي بشارة، فالوعد هو الأمل، والأمل هو الكار القديم المتوارث كمفاتيح البيوت التي خبأتها النساء بين أثدائهن، منذ أن أصبح سؤال الأبناء للآباء بعد النكبة: متى سنعود؟


مصادفة كان المكانُ هو القدس، التي لا تُعرَّف إلا باسمها المزدحم بالتوريات، حتى وإن أراد الآخرون اختزالها في هيئة عاصمة إدارية لدولة مزعومة. ومصادفة كان الزمانُ عشيةَ الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة المستمرة، التي خرج المقدسيون والمقدسيات لكسر ساعتها الرملية النازفة ببطء متباطئ… ولنا بعد ذلك أن نحصي مصادفات ورمزيات شتى سيحيل أعناقَنا إليها مسلسل الأحداث الصغيرة والكبيرة من قبيل مسيرات العودة الرمزية لمئات من الشبان الأردنيين واللبنانيين ومن بينهم عدد كبير من اللاجئين في البلدين، صوب الحدود مع فلسطين التاريخية، التي لم تعد تاريخية. لقد كسر الفتية المدججون بالإرادة والتهور حدود سايكس بيكو التي قهرت أجدادهم، وأعادوا رسم الخرائط.


لكن “هنا” و”هناك” اسما إشارة عصيان على التلاقي، إلى حد الطباق أحياناً، فلن يهجس الخارج (هناك) بالداخل (هنا) إلا إذا طورت الضحية المباشرة في الداخل أساليب بلاغية جديدة تتجاوز الجناس والسجع المرتد كصدى معدني رخيم إلى قلبها، نحو أساليبَ بلاغية تنتشل اللغة من بركها الآسنة، ومن تربص الملل المستمر باللغة. ها هو الفلسطيني مرة أخرى يعاود اكتشاف اكتشافه من جديد بالعودة إلى سرّ انتفاضته الأولى عام 1987، حينما أدرك لأول مرة أن “الملل” هو الداء، وأن الضمير الإنساني معرضٌ دوماً لاستبدال قضاياه وفقاً لآخر مستحدثات الموضة، فكانت “الانتفاضة” آخر اختراع عربي يمكن أن تعثر عليه في معجم أكسفورد. ولكن كيف يمكن أن نواري السؤالين التاليين: إلى متى سيقدّم الفلسطيني دمه وترابه قرباناً للضمير الإنساني المتنمّل، كي يحظى مجدداً باعتراف خجول يخول له أن يعود إلى المسرح في ثياب الضحية من جديد؟ وإلى متى ستظل حركة التاريخ سباقاً محموماً على دور الضحية، في عالم لا يحتمل ضحيتين على أرض واحدة؟


غير أن العالم الخارجي لن يكتفي بمنح الفلسطينيين هذا الاعتراف دون أن يكون وصياً عليه، بل سيواصل نقد الألم الفلسطيني بما أوتي من أدوات تشريحية. سيكتب نقاد الألم المترفون و”خبراؤه الاستراتيجيون” عن “خطأ في التوقيت” اقترفته المقاومة، سيقترحون هدنة مع العدو تضمن للمتفرجين عدم خروج الضحية عن نصها المسرحي المعد بحرفية تراجيدية من أجل “موت مهذب” لا يخدش المعايير الأخلاقية المصممة برعاية أمريكية لنضال المستضعفين ضد آلات القتل الباردة. في المقابل سيهيب هواة الملاحم بالفلسطيني ليقذف بنفسه في أي دور بطولي متاح على خشبة المسرح، لكي يعيد إلى المعركة حالة التوازن التي لم تكن موجودة يوماً، وإلا لما كان للتاريخ أن يحدث بكل بساطة. لكن الألم سيكسر قوالبه ويطلق السؤال المسكوت عنه: متى يتعين على الشأن الفلسطيني أن يكون عربياً؟ متى يتعين على الشأن الفلسطيني أن يظل فلسطينياً؟ أين تبدأ الحدود بين ما هو سؤال وطني خاص وما هو قوميٌّ عام في الحالة الفلسطينية التي نُسلم بأنها بالغة التعقيد من جراء امتزاج المشترك المعقد: اللغة والجغرافيا والدين، وما هو أهم من ذلك؛ المستقبل؟


لستُ بصدد الإجابة على هذا السؤال الضروري والمتأخر، لكنه بات من الواضح لنا أن أعداد المخرجين قد تفوقت على أعداد المؤدين فوق المسرح، فأصبح من المهم التذكير بحق المهزوم في هامش من الخصوصية، كي يختار عليه الطريقة التي يريد أن يموت بها أو يحيا. كما يبدو من المفيد التذكير بشعار “القرار الفلسطيني المستقل”، الذي أصرَّت عليه منظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاقها، في الوقت الذي كانت فيه أنظمة عربية تصف نفسها بـ”الثورية” لا تتورع عن تعليق الأشلاء الفلسطينية وساماً على صدور زعمائها.


تعيد حرب التحرير الجارية تموضع القضية الفلسطينية في سلم القضايا العربية، فـ”القضية المركزية” التي طمرت تحت كوارث عربية، داخلية وخارجية، عادت إلى الصدارة من جديد بطريقة تبدو مختلفة عن سابقاتها؛ فالانتماء للألم الفلسطيني لم يعد يأخذ طابع أداء واجب العزاء، بل واجب الدفاع عن النفس أمام مشروع استعماري يهدد المنطقة بأسرها، وما فلسطين إلا أول مستنقعاته، وتعيد حرب التحرير هذه أيضاً  التدقيق في العلاقة بين الاسم والمسمى، وتُصالح الحقيقة بالحق، كما تعيد رسم الخرائط والحدود في بلد “تتحرك حدوده كسحابة من الجراد” كما عبَّر الكاتب الفرنسي كريستيان سالمون بعد زيارته إلى قطاع غزة عام 2002 ضمن وفدٍ من البرلمان العالمي للكتاب. إنني أشدد هنا على الصيغة المضارعة للفعل (تعيد)، الذي ينبغي علينا أن نربيه أكثر ليمارس أشغاله المضارعة في كل شيء، لأن المكاسب المرجوة هي رهن الاستمرار، قبل أن يتفشى الملل مرة أخرى في المناخ العربي المشبع بالرطوبة والتلوث.


أما العالم الدولي فلا زال يذكرنا بأن القوانين الدولية ليست سوى بنات الاستعمار الطويل والمتجدد لهذا الجزء الغامض من العالم، الشرق. فالسياسات الأمريكية تفشل مجدداً في تمريننا على حقنا الطبيعي في النسيان، معيدةً الهندي المطمور تحت الطرق السريعة وناطحات السحاب إلى محكمة ضمير الأبيض المشدوه من تآخي شعبٍ بريء مع طبيعة بريئة حتى التماهي، فلا تنبو لغته الشفاهية عن منطق الطير، ولا يميز قلبه بين شقرة السنبلة وشقرة الذهب، إلا حين يشعُ الأخير على جيد فاتن. مرة أخرى، في القرن الواحد والعشرين يشهر الزعيم الهندي سؤاله المعذب في وجه الأبيض: لماذا تغارون منا؟ ولكن لم يكن في وسع الإسبانيّ سوى أن يُجن أمام تلك البراءة التي لا تشي بأكثر من نفسها. فكان عليه أن ينتقم، كان عليه أن يبيد الهندي، ثم يشرع في كرهه قبل أن يكره نفسه. سوف يطردُه من أرضه ويطارده، بحجة بليدة: “إن المنطقة تعد خاوية” من الناحية القانونية، لأن الهندي لم يقم بعملية “إخضاع الأرض”، ولذلك كان له فيها حقٌ “طبيعي” لكنه ليس “حقًا مدنيًا”، وليس للحق الطبيعي سند قانونيّ”(1)… ولكن ما الجدوى من استئناف محكمة الضمير من جديد أمام كريستوفر كولومبس وأتباعه، إذا كنَّا نعي مسبقًا بأن ما نقوم به ليس أكثر من “تمرين أكاديميّ عديم الجدوى” (1)، كما يَروج لدى أساتذة التاريخ في الجامعات الأمريكية؟ ولكن الجدوى مرهونة بسؤال لاحق على السؤال سابق: هل تغير الموقف كثيراً بحيث يتحول التاريخ إلى نزهة متحفية فحسب؟ علينا أن نعود بعض يومٍ إلى الوراء، إلى تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية بعد أن حاول الصحفي استدراجه للإجابة على سؤال واحد فقط: هل للفلسطينيين حق الدفاع عن أنفسهم كما هو الحال مع الإسرائيليين؟ كانت الإجابة متلعثمة، لكنها واضحة أيضاً في مفادها: الولايات المتحدة تؤيد حق أي "دولة" في الدفاع عن نفسها، بعبارة أخرى: على الفلسطينيين أن يموتوا لأنه لا مكان للبرارة في العالم الجديد، لأنهم ليسوا "دولة".


في حي الشيخ جرّاح الذي اتخذ لاسمه مكانة حية في ذاكرة الأجيال الجديدة، كما في غزة، كما في سائر القرى والمدن الفلسطينية، تدافع الحياة عن نفسها وإن كلفها ذلك مزيداً من الموت. يتضح الوطن الغامض حين يصبح الباعة المتجولون والموظفون والعاملون بالأجر اليومي شعباً، لا عمالة وافدة كما تريد لهم حكومة الاحتلال.


لقد أثبت الفلسطيني للعالم مقدرته على تذكر نفسه كلما نسيه العالم، فعاد إلى فلسطين وعادت فلسطين إلى ذويها وإلينا كما لو نودي بالجسد المريض إلى موعد حب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


1. التاريخ الشعبي للولايات المتحدة، هاورد زِن.

نُشرت هذه المقالة على موقع مجلة الفلق بتاريخ 6 يونيو 2021


تعليقات

المشاركات الشائعة