الشتاء... كتابة بالأبيض والأسود



ثمة تنبؤات متباينة كانت قد شاعت كثيراً بين الناس في أواخر ديسمبر الماضي، تفيد بأن شتاءً مختلفاً هذا العام سيجيئ أشدُّ قَرسة مما خبرناه في سنواته الأخيرة. كنت أتساءل، مع تهافت تلك التنبؤات، إن كان ما يزال لتقلُّب الفصول فينا أثره العاطفي أو الحيوي الذي يرسم ملامح حياتنا اليومية على مدار أيام هذا الفصل أو ذاك. في الواقع إن فصول بلادي شحيحة. تفاصيلها الصغيرة ليست في المتناول دائماً. تلك كانت ملاحظاتي كطفل تنبَّهت عيناه في قرية عمانية ترقد على الضفة اليمنى لوادي سمائل: فصولٌ تتبدلٌ في مشهد أعزل يميل إلى صيفٌ طويل تُأَذِّن فيه “تْبِشْرَة” نخلة “النِّغال” معلنة بداية قيظ القرية العمانية، أو شتاء أتعرَّف عليه في هيئة أبي كلما بادر للخروج إلى صلاة الفجر في معطفه البني، متلفعاً بمِصَره. لكنهم يحكون أيضاً عن خريف ظفاريٌ على الجزء الجنوبي من البلاد، أشبه بعيد سنويِّ، غير أنني وأبي بقينا العمانيين الوحيدين الذين لم يزورا صلالة حتى اليوم. أما الربيع فكان الأكثر التباساً من بين الفصول الأربعة؛ فصل سنويٌ لا يكاد يحضر في تفاصيل المشهد المترامي أمام بصري من أعلى سطح الدار بقدر حضوره الكثيف في اللغة، في الشعر، وفي لوحة أوغست رينوار “بداية الربيع”.

لوحة أوغست رينوار ” بداية الربيع”.

كنَّا نتناوب على التثاؤب خلال الحصة الثامنة في ظهيرة مدرسية بعيدة. كان عنوان الدرس المكتوب على الصُّبورة هو “الوصف عند البحتري”. صوت معلم اللغة العربية يطفو على هدير مكيفات الفصل، وهو يتهدج بشرح أبيات البحتري:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً

                من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبَّه النيروز في غسقِ الدُّجى

                  أوائل ورد كُنَّ بالأمس نُوما

قاطعته مستنكراً: أين منّا هذا الربيع الذي يصفه البحتري في هذه البلاد؟ فرفع رأسه قائلاً: “ربيع البحتري هناك في بلاد الشام، حيث “النيروز”، أما ربيعك فابحث عنه في “سرور”، وإلا فتلمَّسه في نفسك”. انفرجت أساريره متنفساً عن ثقة بالغة، وكأنه تلفظ للتو بحكمة شاعرية أذهلته كيف حدثت.

هكذا سأخرج من الفصل باحثاً عن الربيع المتواري، في قريتي سرور حيناً، وفي داخلي حيناً، وفي رسالة نعي أثناء الطابور الصباحي، تقول: “رحل عنا زميلكم (…) إلى جوار ربه عن اثني عشر ربيعاً”. هكذا كنت أتتبع الربيع، فأعثر عليه هناك، هناك في حدود الرؤيا، لا الرؤية.

“إن مُتُّ في الربيع

فادفنوني في نحر حبيبتي

لكني آه..

لن أموت في الربيع

فحبيبتي تعشق الرقص في الربيع”.

عبدالله حبيب

الشتاء.. استعادة لمشهد لا يستعاد إلا لماماً: مشهد هبوط الأطفال القرويين من مؤخرة سيارة “البيك أب” أمام المبنى القديم لمستشفى سمائل. فتنكشف دشاديشهم الملونة عن سيقان دقيقة للغاية، رسم عليها الجفاف خرائط تلك الشوارع الترابية الوعرة التي قدموا عبرها في عز شتاء 2003، بأكمام يبس عليها المخاط، إلى مركز الولاية.

مبنى مستشفى سمائل القديم.

يحيلني أحد الأصدقاء إلى تلك الجهة من الذاكرة حينما يقول: “لا أتذكرني طفلاً إلا بأنف راعفة دائماً”. أولئك القرويين سأتذكرهم دائماً كلما مررتُ على قصيدة محمد الماغوط “مسافر عربيٌّ في محطات الفضاء”:

“اعطوني بطاقة مجانية إلى السماء،

ففي راحتي بدل النقود… دموع.

لا مكان لي؟

ضعوني على مؤخرة العربة/

في ظهرها،

فأنا قروي ومعتاد على ذلك”.

لماذا يكون الانتظار هو سمة الشتاء الغالبة؟ هل لأن فيروز أدمنت الانتظار دائماً في الشتاء؟

“قديش كان في ناس

عالمفرق تنطر ناس

وتشتي الدنيي

ويحملو شمسية

وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني”.

ها أنا لا أتذكر أنني انتظرت أحداً كما انتظرت أبي إلى جوار أمي في ضحى الشتاء، عند مدخل المستشفى. غالباً كنت أبدد تلك الساعات المضنية في مشاهدات لا طائل منها، أو في التجوال داخل ممرات المستشفى، ثم أعود إلى أمي فأتوسلها حتى تزودني بمئتي بيسة لأجرب ذلك الشيء الغريب الذي يطهى في عربة متنقلة يتجمهر عليها الصبيان، بينما تجلس على مسافة ثابتة، غير بعيدة من العربة، أخواتهم الصغيرات في انتظارهم. كانت أمي تخدعني بالقول أن ذاك طعام بائت وغير صحي، وأن هؤلاء الأطفال سيصابون عن قريب بالإسهال إذا ما تناولوا ذلك الطعام المعد من البارحة. ولكنها ما لبثت أن انصاعت لإلحاحي الشديد، فزودتني بالمئتي بيسة لتدفع عن نفسها الحرج من الأمهات الكريهات الجالسات على مقاعد الانتظار الخشبية، اللواتي -لفرط السأم من الانتظار ربما- سرعان ما ينسين أعينهن في أي وجه تقع عليه نظراتهن… على هذا النحو كان لي أن أتناول لأول مرة في حياتي لفافة فلافل ساخن.

هل كان ثمة هامش من الوقت لأحلم بالثلج ككل الأطفال في تلك الأيام التي تتراءى لي الآن من هذه المسافة كفيلم سينمائي بالأبيض والأسود؟ أتذكر أنني فعلتُ ذلك في مرات قليلة، بل رسمت الدب الثلجي في دفتر مدرسي، غارساً على وجهه أنفاً من الجزر. ولكن أين ذهبت تلك المساحات الشاسعة من الثلوج التي شاهدتها قبل أكثر من عشر سنوات في فيلمٍ وثائقي عن معركة ستالينجراد؟ من مؤكد أنها استقرت في مخيلتي بالضبط، حيث أن مكانًا آخر ما كان ليتسع لتلك الصحراء الثلجية التي وجه فيها طبيب الجيش السادس النازي إرشاداته للجنود الألمان بفتح شق في سراويلهم من الخلف كي لا يقتلهم البرد كلما اضطروا لقضاء حاجاتهم، بينما كان رجال رومل (الفيلق الإفريقي) يقلون البيض على سطوح دباباتهم الساخنة وهم يستمعون للأغنية الحربية “ليلي مارلين”. ولكن سرعان ما تخليت عن الحلم بالثلج، فقد بدا لي أقرب إلى ترف برجوازي في تلك الظروف.

لا أدري لم ظَلَّت هيئة الأفغاني تحديداً، ذاك المنحدر من جبال هندوكوش، هي وحدها التي تسطو على مخيلتي في الشتاءات الأقسى برودة في ذاكرتي، كلما جسلت إلى جذع نخلة يحترق لأتدفأ في بواكير الصباح! ربما لأن الإعلام لم يكن ليفرغ بعد من تحويل المأساة الأفغانية إلى دراما تلفزيونية مصورة منذ الاحتلال السوفيتي في العقد الأخير من الدراميات الكارثية للحرب الباردة، ولأننا لم نكن لنضجر -نحن المتفرجون خلف الشاشات- من رؤية مقاتلي تنظيم القاعدة في أشرطة الفيديو الحصرية على قناة الجزيرة، خلال تلك السنوات الدامية من الحرب التي وصفتها الولايات المتحدة ب”الحرب على الإرهاب” (تنظيم القاعدة).

مقاتلون أفغان ضد السوفييت في ثمانينات القرن الماضي.

وإلى اليوم، وحده الأفغاني من بين الأكراد والإيرانيين، هو من تسحرني هيئته الشتائية في ذلك الصقيع الذي يتقاسمه أديمه مع البغال وهي تسلك منحدراتها الوعرة. كأن الأفغاني يستمد فتنته الباهرة من ندرته، فهو ليس شائعاً في مشاهداتي اليومية في الشوارع والأسواق. كان ذلك الإسكافيُّ العجوز في سوق نزوى هو الأفغانيُّ الوحيد الذي قابلته في حياتي. سألته: أنت باكستاني؟ أهداني نظرةً ساخطة وأجاب: “أفغاني”! ما كاد ينطق بالكلمة إلا وانفتحت شراهة عيني عليه، محملقاً فيه وكأنه تحفة شرقية متربة. وللمصادفة، كان الوقت شتاءً، لكنه لم يبدُ في هيئة الأفغان الشتائية التي أرسمها في مخيلتي، بل مكتفياً بقبعة “أوشنكا” ذات الطراز الروسي، تنزل منها ثنيتان تغطيان أذنيه. انحسرت نظراتي عن وجهه إلى يديه القديمتين اللتين تخيطان نعالي بمخرز عنيف، دون أن تغيب عني نظرته الساخطة التي رماني بها قبل قليل وما لبث أن رفعها عني كمن يصفح عن أحدهم وهو قادر. أدركت حينها فظاعة أن تشير لأحدهم بهوية غير هويته، وإن تشابهت الجغرافيا والاسماء.

أتأمل زهرة بريَّة تتفتح على حجر يندى في أول الفجر. أجسُّ التراب البارد وأحاول أن أتذكر عدد ضحايا الفايروس الذين أعلن عنهم بالأمس: كم جنازة ستدخل مقبرة العامرات تحت هذا الطقس؟

أقضي المقيل في مراقبة جرادة تتقافز على نافذة غرفتي، متذكراً واحداً من الأخبار الغريبة، التي كنت قد قرأتها على جريدة عُمان مع نهايات الشتاء المنصرم، عن أسراب الجراد المباغتة التي ملأت سماء مدينة الإعلام. وأسأل من جديد إن كان حقاً سيعني لنا الدخول في شتاء جديد ما هو أكثر من تقلبات درجات الحرارة التي نرصدها في ثيرموميتر السيارة، بعد أن جردنا ذاك الطريق الأسفلتي الطويل، بين القرية والمدينة، من عواطفنا تجاه أزمنة بعينها، ليسلمنا إلى المعاطف؟ أقلب في خَلدي هذه الهواجس، بينما هناك، حيث تشير يد شيخ في إحدى قرى الجبل الأخضر، ينمو عشب كثيف على جبال الحجر الشرقي لا يتفتح إلا في هذه الأيام من السنة. دون أن أتجاسر فأتمنى أن تعود تلك الشتاءات البعيدة، أو أن أحلم بالشتاءات القادمة من المستقبل: هنا، في شتاء بين زمنين، أريد هذا الليل حكراً للوحيدين حتى الأبد.

نُشرت هذه المقالة على موقع مجلة الفلق بتاريخ 5 نوفمبر 2020:

https://www.alfalq.com/?p=23412

تعليقات

المشاركات الشائعة